كتبت عدة أوراق بحثية ومقالات عن الشعبوية اليمينية التى تغزو بأفكارها العالم، وتتخذ عدة أشكال وتجليات عبر العالم، بداية من ظهور عشرات الأحزاب الأوروبية مرورًا بترامب، وصولًا إلى ظهور حكام وأحزاب متطرفة فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، والغريب أن الشعبوية كمفهوم يتسم بالغموض والتنوع، حيث ارتبط بحركات وأحزاب يمينية ويسارية ودينية، لكن سأتوقف اليوم عند أربع سمات أساسية تميز الشعبوية عن غيرها من الأفكار والحركات السياسية والاجتماعية.
السمة الأولى ادعاء نخبة سياسية أو عسكرية الحكم باسم الشعب، وتصوير الشعب ككيان مقدس وموحد معصوم من الخطأ:- وبالتالى لا بد للشعب أن يحكم نفسه بنفسه، ولكن من خلال هذه النخبة التى تحتكر حق الحديث باسم الشعب، وتعادى النخب السياسية الأخرى والمفكرين والمؤسسات الديمقراطية، وتعمل على تضييق المجال العام.
وغالبًا لا تطرح الشعبوية برامج سياسية واضحة، وإنما تركز على التلاعب بعقول الجماهير وعواطفهم من خلال إثارة المخاوف والآمال، والترويج الدعائى لأفكار وحلول بسيطة للمشكلات الداخلية والخارجية، تقوم على مسلمة وجود انقسام وصراع بين الشعب وأعدائه فى الداخل والخارج، ووجود مؤامرات تستهدف أمن الوطن والمواطنين، وعلى حتمية انتصار الشعب فى نهاية المطاف.
وتتطلب حتمية الانتصار وحدة الشعب وتماسكه، ما يعنى عدم السماح بوجود خلافات أو معارضة داخلية، ووجود رئيس أو زعيم مُلهَم، قادر على إنقاذ الوطن ومحاربة الأعداء. وفى بعض التجارب الشعبوية؛ جرى توظيف الدين أو الأيديولوجيا لتفسير الأحداث وتأويلها بما يبرر الوعد بالانتصار على الأعداء وإحراز التقدم والعدالة الاجتماعية.
السمة الثانية تتعلق بالطابع الأيديولوجى للشعبوية: فهى أداة أيديولوجية بامتياز؛ إذ يجرى إشهارها وتوظيفها فى الصراع السياسى، وهنا لابد من البحث فى الجذور الاجتماعية والاقتصادية للأيديولوجية الشعبوية المعاصرة، وتحديدًا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية فى أوروبا وأمريكا بداية من 2008، وربما قبلها.. مع التداعيات السلبية للعولمة، وصولًا إلى مشكلات استقبال وتوطين المهاجرين.
والثابت أن تباطؤ النمو الاقتصادى فى أمريكا وأوروبا قد دفع نحو سياسات تقشفية وخفض فى الإنفاق الحكومى على الخدمات العامة، ما أدى إلى زيادة ملحوظة فى أعداد الفقراء والمهمشين فى ظل تركز ملحوظ للثروة والسلطة، وتفاقم عدم المساواة فى الدخول، وهو ما أثبته تفصيلًا وبالأرقام توماس بيكيتى فى كتابه الشهير «رأسمالية القرن الواحد والعشرين».
ولا شك أن هذا المناخ الاجتماعى يفرز مشاعر من الإحباط واليأس استغلها الخطاب الشعبوى التبسيطى، بطبعاته المختلفة، وحولها فى اتجاه رفض العولمة وغزو المنتجات الصينية، وانتعاش النزعات القومية، وكراهية المهاجرين، وهم فى غالبيتهم مسلمون، ما يوفر ذخيرة للخطاب الشعبوى فى الربط بين كراهية المهاجرين وبين ظاهرة الإسلاموفوبيا والخوف من الإرهاب الإسلاموى، والتى ترسخت فى الوعى الجمعى الأمريكى والأوروبى.
وإضافة إلى مشكلات الاقتصاد، فإن هشاشة الأحزاب وضعف مؤسسات الدولة وفساد النخبة السياسية تشكل البيئة الحاضنة لظهور ونمو الحركات الشعبوية والتى باتت تهدد الأمن العالمى والاقتصاد الدولى، وتعادى العرب والمسلمين والمهاجرين.
السمة الثالثة: التشابه وربما التطابق بين الشعبوية والجماعات الإسلاموية المتطرفة- فقد اعتمدت الشّعبويات على تصوير مبسط وسطحى للأحداث، فالتاريخ تحركه المؤامرات، ولا بد من وحدة الشعب، تحت قيادة زعيم ملهم، خطيب مفوه، قادر على قيادة الوطن وتحقيق الانتصار الحتمى على الأعداء فى الداخل والخارج.
والمفارقة أن المسار الجديد للشعبويات فى أوروبا، خصوصًا بعد فوز دونالد ترامب، يوظف الإسلاموفوبيا لإثارة مخاوف الناخبين، ويهاجم الجماعات الإسلاموية والتنظيمات الإرهابية التى توظف الإسلام وتسىء إليه، بينما الحقيقية أن هذه التنظيمات وغيرها من الجماعات الإسلاموية هى حركات شعبوية تستخدم كثيرًا من مقولات الأحزاب الشعبوية اليمينية.
وكانت البدايات الأولى للشعبوية الإسلاموية على يد حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» فى مصر عام 1928، والثابت أن البنا تأثر بالأفكار والممارسات الشعبوية التى بدت ناجحة فى عشرينات وثلاثينات القرن الماضى فى كل من ألمانيا النازية وروسيا الستالينية وإيطاليا الفاشية.
وقام البنا بنقل أو تمصير أفكار وممارسات تلك الشّعبويات، مثل الحرص الشديد على قيام تنظيم حديدى متماسك والتعالى على الآخرين، ورفض مؤسسات العمل السياسى وأفكار النخب الليبرالية، والتأكيد على ضرورة الولاء والسمع والطاعة للزعيم المؤسس «حسن البنا»، الذى احتكر حق تفسير الإسلام كنص مقدس، وتحديد الأعداء والأصدقاء، وعقد التحالفات المريبة من أجل مصلحة الجماعة التى هى جماعة المسلمين، ما يعنى بمنطق المخالفة أن كل من خارجها ليسوا مسلمين.
والثابت أن كل قيادات وأمراء التنظيمات الإسلاموية بداية من المودودى مرورًا بسيد قطب وتقى الدين النبهانى وشكرى مصطفى وبن لادن والظواهرى والزرقاوى والبغدادى، وغيرهم، اكتسبوا حق السمع والطاعة وتوجيه الجماعة وتحديد أهدافها، كما تمتعوا بقدرات خطابية عالية مكّنتهم من دغدغة مشاعر أنصارهم، والتأثير فيهم، تمامًا كما فعل رموز وقيادات الحركات الشعبوية القومية فى العالم مثل هتلر وموسولينى وشافيز وترامب.
ورغم الأفكار والممارسات الشعبوية لدى الجماعات الإسلاموية، إلا أن هناك خلافًا رئيسًا بينهما، حيث تحبس معظم الشّعبويات نفسها فى وطنية أو قومية ضيقة وتضفى عليها قدسية أخلاقية زائفة وتربطها أحيانًا بالنقاء العنصرى، بينما شعبوية الجماعات الإسلاموية ترفض الأطر القومية وتتبنى فكرة الأمة الإسلامية والدين كإطار جامع وأساس متخيل للهوية.
السمة الرابعة: تحدى الديمقراطية: حيث تهدد الشعبويات كل نظم الحكم الديمقراطية، كما تهدد التعدد والتنوع فى المجتمع، وتدفع باتجاه شن حروب خارجية استنادًا إلى أسباب ومبررات مختلفة، فى هذا السياق فإن هناك حروبًا متوقعة على الأسواق وتقسيم مناطق النفوذ بين أمريكا وروسيا والصين، وقد يبادر ترامب بتغذية الشعبوية بشن حرب على إيران أو التدخل فى ليبيا.
لكن على الجانب الآخر، يمكن القول إن المخاطر التى تطرحها الشعبوية قد تدفع نحو إصلاح الديمقراطية لنفسها، بكلمات أخرى فإن الشعبوية المعاصرة لها دور وظيفى تلعبه فى إصلاح الديمقراطية التمثيلية وتطويرها، أى أنها بمثابة جرس إنذار لما قد تتعرض له الديموقراطيات الغربية والحقوق المدنية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة