لا يختلف اثنان فى مصر على ضرورة نقل الاتفاقيات التجارية مع الدول من مجرد أرقام على أوراق اتفاقيات إلى واقع ملموس على الأرض ، ولكن المشكلة الأساسية أن تطبيق الواقع يصطدم بجهاز إدارى بيروقراطى قديم مبنى على الإجراءات الروتينية التلقيدية والالتزام الحرفى بالتعليمات القانونية التى قد تكون سببا رئيسيا فى إفساد مشروع كبير بملايين الدولارات يعود بالخير على المصريين، وهو الأمر الذى يرسم مشهد تناقض غريب فى جهاز إدارى واحد، رأسه متمثل فى وزيره أو صانع قراره الأول يؤيد مشروعا ما ويقف بقوة لإنجاحه، فى حين أن أحد الموظفين بدرجاته الإدارية يعطل المشروع نفسه.
الأمر يتلخص فى أن الجهاز الإدارى المصرى يتضمن نموذجين إداريين ، الأول هو الوزير أو المسؤول الأول الذى يتحرك بسرعة كبيرة بإدراك كامل لتحديات البلد ونقلتها الاقتصادية المرتقبة، والثانى هو الموظف «اللى تحت» الذى لا يدرك التحديات ولا يؤمن بالنقلة الاقتصادية، ولا يهدف أبدا إلا أن ينتهى يومه الوظيفى على سلام فى الثانية ظهرا دون أى مجهود إضافى أو نوعى لتحسين خدماته التى يقدمها، الحل هنا هو البدء فى ثورة إدارية بالجهاز الوظيفى، ولكنه أمر صعب المنال، لأن الجهاز الوظيفى معقد ومحكوم بقوانين متضاربة، تحتاج أولا استبدال قوانين جديدة بها، وبالتالى الحل البديل هو تطوير الجهاز الإدارى بإدخال الميكنة بما يترتب عليه تقليل فرص التعامل البشرى، ومن ثم تقليل الأخطاء والمعوقات، وهو أمر كان أحمد درويش، وزير التنمية الإدارية الأسبق، طرحه ضمن منظومة كاملة، ولكن لم ينفذ منها حتى الآن غير بطاقة الرقم القومى فقط.
نجاح «الموظف اللى تحت» يعتمد عليه بشكل أساسى نجاح المشروعات التى يخطط لها من «فوق»، ونجاح «الموظف اللى تحت» يتطلب من الدولة أن تعيد له كيانه الوظيفى الحقيقى، فليس من المعقول أن تكون نظافة وكثافة المكاتب فى الوزارات بحسب قربها وبعدها عن مكتب الوزير، بمعنى أن إحدى الوزارات تتضمن طابقا واحدا نظيفا بمكاتب لائقة، لأنه الطابق الذى يوجد فيه الوزير، بينما الطوابق الأخرى تتضمن مكاتب ضيقة ويتكدس الموظفون بها لضيق الحجرات، فهل الدولة تنتظر من الموظف «اللى تحت» أى إنجاز فى العمل؟ بالطبع لا.. سيكون عمله الأساسى هو تعطيل العمل دون أن يدرى، وبالتالى تعطيل لمشروع أهم وأكبر قد يخدم مصر، ثورة الجهاز الإدارى الحقيقى تبدأ «من تحت»، لأنهم أهل لهذا الإصلاح، قليل من التوعية، مع قليل من الإرشاد، مع قليل من الاهتمام، ستنتج منظومة إدارية جديدة ناجحة.
وأعتقد أن قانون الخدمة المدنية كان الطريق الأساسى لتطوير المنظومة الإدارية للدولة المصرية من الداخل، خاصة أن القانون تضمن مواد تنظم العلاقة بين الموظف والمدير وتزيد من فرص ترقى الموظف «الشاطر» بدلا من الترقى على أساس الواسطة والمحسوبية، وأظن أن باب إصلاح الجهاز الإدارى للدولة لا يزال مفتوح أمام كل صانع رأى أو واضع سياسة لأن الإصلاح بالجذور وبالمراتب الأقل فى الدولة يترتب عليه مزيد من المعالجة لمئات الأخطاء اليومية التى يرتكبها الموظف الأقل، بينما يضار منها كبار رجال الأعمال والمستثمرون بما يعود بالسلب على الدولة، خاصة أن الشعار الأساسى التى ترفعه البلاد اليوم هو تسهيل إحراءات الاستثمار والمستثمرين.
ولعل دعم القيادة السياسية لرجال الاعمال والمستثمرين الحدد هو نواه دلالة كبرى على الاهتمام بخدمة الاستثمار ورفع كفاءته مع خلق آقاق جديدة للتغلب على أى عقبات إدارية أو بيروقراطية تعرقل سير رجال الأعمال.
اللافت أيضا أن سير الدولة فى إصلاح الجهاز الإدارى سيترتب عليه مزيد من الثقة قبل رجال الأعمال الراغبين فى الاستثمار بمصر ومزيد من الأموال المقبلة من الخارج باعتبار مصر أرض صالحة للاستثمار وإقامة مشروعات حيوية.
كتبت هذا المقال من فترة ولا يزال الجهاز الاداري ملغم بعدد من القنابل الموقوتة التي تقف امام اَي تقدم نوعى في مجالات الاستثمار ورجال الاعمال ، ولعل القضايا التي تعلنها الرقابة الإدارية يوميا من القبض علي موظفين فاسدين بالجهاز الاداري يتلقون رشاوى خير دليل علي ان الجهاز الاداري يحتاج الي تنقية وفلترة من وقت لآخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة