ماذا يعني أن تكون فنانا؟
هذا السؤال يجب أن يسأله كل فنان لنفسه ، وأن يعمل جاهدا من أجل تحقيق هذا المعنى في داخله قبل أن يروجه للجمهور ، فالفن هو ذلك العمل الخارج عن شروط العادية ، هو ذلك الرقي الذي يقدمه الفنان في صيغة لغوية أو لونية أو نغمية أو نحتية أو معمارية أو تصويرية مفارقة تأكيدا من على وجهة نظره المفارقة لوجهة النظر العادية، فالفن عدو العادة وصنو التجديد، الفن عدو المادة وأبو المعنى، الفن رسالة بالفعل، راسلها هو الفنان، ومقدمها هو الفنان، والمقاتل في سبيلها هو الفنان، لذلك فكثيرا ما يرتبط الفنان الحقيقي بمعنى الكرامة الحقيقية، بالثبات على الرأي لا لتعصب أو تحجر، وإنما لأنه اجتهد وصبر وتعلم ونظر حتى كون رأيا، الفن هو تلك الصرخة التي يصرخها الإنسان رفضا للموت وسعيا للخلود، الفن هو ذلك الشعور بالمسئولية الإنسانية، والمسئولية الاجتماعية، والمسئولية الوطنية، فيقدم الفنان كل ما يدعم هذه المسئولية.
قديما كان كثيرا ما يشن المتحذلقون حربا ضد الفنانين محقرين إياهم لا لشيء سوى لأنهم قادرون على اجتذاب الناس إلى كل ما هو مبهج وكل ما هو مؤثر، فحاصر المزيفون الفنانين بالتحقير حتى يفقدونهم قوتهم وفاعليتهم، ثم ما أن أدركت البشرية معنى الفن وقدرته حتى وضعت الفنانين في مكانة تكاد تقترب من مكانة الأنبياء، وكان هؤلاء الفنانون على قدر كبير من "المسئولية" ففعلوا كل ما يدعم "رسالتهم" وتشاركوا في كل ما يهم الناس بداية من الحرب مثل الفنان العظيم لوركا وحتى رعاية الأيتام، وإقامة المؤسسات الخيرية وتدعيم الفن في كل مكان، مثلما تشارك محبو الفن في بداية القرن الماضي لإنشاء معهد الموسيقى العربية، وقد كان الفنانون مثالا لعزة النفس والفداء، حتى أن الفنان الرائد "كامل الخلعي" آثر أن "يسرح بورنيش" أي بصندوق تلميع أحذية على أن يقدم نوعا من الفن لا يرضى عنه، ولم يثنه عن هذا العمل سوى الفنان العظيم الآخر "زكريا أحمد" الذي كان يسعى وراءه من شارع إلى شارع حتى يقنعه بالعودة إلى الفن حتى أقنعه.
هؤلاء فنانون، فهذا الجيل كان يدرك مسئولياته عاملا من أجل مجتمعه، فكانت أم كلثوم تتبرع للمجهود الحربي وتسعى لإقامة مؤسسة خيرية باسمها، وكان غيرها من الفنانين يضحون بكل نفيس من أجل إفشاء الفن وخدمته، حتى أن سيد درويش كان يوقع باسم "خادم الموسيقى" على كتاباته ورسائله، ولك أن تسأل نفسك الآن وأنت ترى كل الفنانين لا يحاربون شيئا بقدر حربهم بعضهم البعض، ولا يقدسون شيئا بقدر تقديسهم للأموال المكدسة، هل هؤلاء حقا فنانون أم سماسرة؟ رسل أم نخاسون؟