بالرغم من أهمية الشهادة التى قدمها خالد محيى الدين فى كتابه «الآن أتكلم» إلا أنها توقفت عند الجزء الأول والعاصف من عمر ثورة 23 يوليو، وما تعرض له خالد من إقصاء فى أعقاب أزمة مارس 1954، لكن تظل الفترة التالية التى تشكل النصف الآخر من حياة خالد محيى الدين مهمة، لأنها تحمل الكثير من التفاصيل حول ما جرى فى السياسة، وانتهى إلى فراغ واضح، وكيف تحولت الحياة السياسية من النشاط والانتعاش إلى الجمود والاضمحلال، ولم يتوقف الامر عند اليسار فقط، لكنه شمل كل التيارات السياسية بتنويعاتها، وقد واجهت الأحزاب ضعفا وترهلا حتى قبل رحيل مؤسسيها، ولم تخرج أوراق أو شهادات عن مؤسسى الأحزاب مثل خالد محيى الدين للتجمع أو فؤاد سراج الدين فى الوفد، ولماذا لم تتكرر تجارب كالتى أسسها وأدارها المخضرمون.
الجزء الأول من مذكرات خالد محيى الدين «الآن أتكلم» قدم آخر شهادة لقيادى بتنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة، سبقه كثيرون منهم حسين الشافعى وعبداللطيف البغدادى، وبالرغم مما تعرض له خالد محيى الدين من إبعاد وإقصاء مع الرئيسين عبدالناصر والسادات، فإنه لم يلجأ لتصفية الحساب مثلما فعل سياسيون وصحفيون كبار، كان الواحد منهم يضع نفسه فى بؤرة الأحداث، ويستغل رحيل خصومه لينهال عليهم بالاتهامات.
على العكس وبالرغم من أن خالد محيى الدين الذى كان فاعلا فى تنظيم الضباط الأحرار ومجلس قيادة الثورة، حرص على أن يقدم شهادته بما شاهده فعلا وبموضوعية، صدرت مذكرات خالد محيى الدين بعد 40 عاما من الثورة، وبعد عشر سنوات من رحيل الرئيس السادات الذى كان كثيرا ما يصل فى هجومه وانتقاده لخالد محيى الدين وحزب التجمع إلى درجة اتهامه بالعمالة للخارج، والإلحاد، بالرغم من أن خالد محيى الدين عرف عنه أنه كان يصلى ويصوم ويحج، ومعروف بين أهل دائرته كفر شكر بالحاج خالد، وكان اتهام الإلحاد يطارد زعيم التجمع فى مؤتمراته السياسية، وكان يرد عليه بتفصيل وابتسامة، ويشرح التزامه بسياسته الاشتراكية.
وعندما صدرت مذكرات خالد محيى الدين «الآن أتكلم»، كانت هناك قصص أن السادات كان عميلا للقصر والملك، ووردت همزات ولمزات بل وذكرها الأستاذ محمد حسنين هيكل فى كتابه خريف الغضب وكررها مرات، ضمن معركته مع الرئيس السادات التى تواصلت بعد رحيل السادات، لكن خالد محيى الدين حسم الأمر، وقال: إن السادات كان يعرف كل تفاصيل وأسماء قيادات الضباط الأحرار، ولو كان أبلغ عنهم لتم القبض عليهم وشنقهم، لكن هذا لم يحدث، وكان خالد يرى أن السادات كان سياسيا ذكيا ومناورا.
كان يمكن لخالد محيى الدين أمام اتهامات السادات أن يشوه صورته بعد رحيله لكنه لم يفعل، كما ظل يحتفظ بالود والصداقة لجمال عبد الناصر، بالرغم من أنه تعرض للإبعاد فى عهده، وعندما قارن بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، قال إن نجيب كان يهتم بهيلمان السلطة بينما عبد الناصر كان يهتم بالتفاصيل السياسية، ويحرص على الإمساك بكل الخيوط، كما أن خالد حاول أن يجد ضرورات سياسية لسياسة عبد الناصر وموقفه من السلطة، بالرغم من أنه كان يرى أن الديمقراطية بأى صيغة كان يمكن أن تقلل الكثير من السلبيات، خاصة الاختيارات الشخصية الخاطئة.
لكن مذكرات خالد محيى الدين توقفت عند الفترة الناصرية ولم تتجاوزها، وهو هنا يشترك مع كل زعماء الأحزاب الكبار الذين لم يتركوا شهادات عن التجربة الحزبية التى بدأت منذ منتصف السبعينيات من القرن العشرين وحتى منتصف التسعينيات تقريبا، حيث بدأت الأحزاب تفقد جماهيريتها وتدخل فى جمود انتهى بها إلى ما يشبه النسيان.
والمفارقة أن قيادات الأحزاب الكبار مثل خالد محيى الدين أو فؤاد سراج الدين كان عليهم الاعتزال بحكم السن، إلا أن الصفوف الثانية لم تستطع الاستمرار بنفس القوة، لكن حتى الأحزاب الجديدة التى ظهرت بعد 25 يناير ظلت حائرة وغير مؤثرة، فضلا عن تعدد الأحزاب اليسارية والليبرالية مع عجزها عن تقديم صيغة سياسية.
بالطبع فإن الأحزاب بشكلها التقليدى تغيرت بفعل التحولات الاقتصادية والسياسية العالمية، وانخفضت نسب المشاركة الحزبية بشكل كبير، لكن بقيت هناك حياة سياسية قادرة على الاستمرار، بينما ظلت التجارب السياسية والحزبية لدينا مجمدة وغير قادرة على الاستمرار، فضلا عن بقائها بين أحزاب سلطة غير قادرة على البقاء دون دعم كالحزب الوطنى أو أحزاب تبدأ وتنتهى فى المعارضة، ولا يمكنها التعايش بشكل طبيعى، يظل تداول السلطة هو أساس حياة وموت الأحزاب، وتبقى طبيعة سياسيين مثل خالد محيى الدين غير قابلة للتكرار بما تملكه من قدرة على التجميع، والتعامل مع السلطة صعودا وهبوطا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة