كان هناك مؤتمر عالمى فى مدينة لاهاى بهولندا، دعى إليه المشرعون والقانونيون من كل أنحاء العالم، ولما كان الأزهر يتمتع وقتها بمكانة آخذة فى العلو، دعى الأزهر كممثل عن العالم الإسلامى إلى هذا المؤتمر، فوفق الله القائمين على الأزهر فى إرسال الباحث العالم محمود شلتوت إلى هذا المؤتمر، وقد كانت مهمته وقتها شاقة مجهدة، فمعظم الحاضرين يكادوا لا يعرفون شيئا عن الإسلام، ومن يعرف شيئا عنه يتخذ موقفا سلبيا منه تحت تأثير الدعاوى التى تقول إن الإسلام دين التقليد والانغلاق، فوقف الإمام محمود شلتوت وسط هذه الجموع الكثيفة المتجهمة المتربصة، وقدم بحثه التشريعى الذى كان يحمل عنوان «المسؤولية المدنية والجنائية فى الشريعة الإسلامية»، قال فيه نصوص الفقهاء فيما يسمى «الضمان والتعويض»، واستشهد بآيات القرآن ونصوص السنة التى تدعم هذا المبدأ وتحدد مسؤوليته، وامتد بها ليشمل مسؤولية الطبيب عن مريضه ومسؤولية من يقصر فى إغاثة الملهوف فى الإسلام، ومسؤولية الحيوان حين يتلف زرعا مملوكا لأحد غير صاحبه، ومسؤولية المسلم أمام إتلاف محترزات غيره، وأخذ يشرح المراد بقول الفقهاء حقوق الله وحقوق العباد، كما استفاض فى شرح معنى العقد القهرى، الذى تم توقيعه بعد غصب، وامتد البحث إلى المسؤولية الجنائية عن الحدود فى الإسلام، موضحا بنصوص الكتاب والسنة وتراجم خبرة الفقهاء أن الشريعة الإسلامية لم يقيد الفقهاء بعد أصولها الكلية بخطة معينة فى البحث، بل فوضت لهم الرأى والاعتماد على ما يقدرون من مصالح وحقوق وواجبات فى العصور المختلفة والبلدان المتباينة، ولما بهر الإمام محمود شلتوت أكبر علماء القانون فى العالم بمدى قابلية الشريعة الإسلامية للتطوير، وكيف تعامل معها الفقهاء الأوائل بمرونة ويسر محافظين على الكليات وغير غارقين فى التفاصيل، أقروا الاعتراف بالشريعة الإسلامية كأحد مصادر التشريع العالمى، واعتبروها إرثا قانونيا عالميا لا تخص المسلمين وحدهم، وإنما تخص العالم أجمع باعتبارها شاهدة على تطور التفكير القانونى لدى البشر وقابلة للتجاوب المنضبط مع متغيرات العصر ومتطلباته.
بطل هذه القصة وغيرها كثير من قصص الدفاع عن الإسلام والمسلمين هو الشيخ الإمام معلم المصلحين محمود شلتوت «1893/1963 م» الذى يعد أحد أهم شيوخ الأزهر عبر تاريخه وأحد أهم باعثى نهضته، وأحد أكبر مقاومى موجات الاستشراق وأحد أهم قادة الإسلام الروحى التاريخيين، الذين لا يقبلون أن يتدخل أحد فيما بين العالم وعلمه أو فيما بين الإمام وسلطاته، فقد حفظ له التاريخ مواقفه الحاسمة، وسمعته الناصعة، ويده البيضاء، واعتزازه باستقلالية العالم التى لا يقبل أن ينازعه فيها أحد، فبخلاف مواقفه الوطنية الكبيرة، فقد عمل الشيخ منذ أيامه الأولى بالأزهر على تطويره وتحديثه واستقلاله، وما كان يغضب إلا للعلم وما كان يثأر إلا للدين، كما حفظ التاريخ لنا استقالته الشهيرة من مشيخة الأزهر، بعدما لاحظ تدخل الدولة فى شؤونه، ففى عام 1963 قدم فضيلته استقالته من هذا المنصب العالى اعتراضا على قرار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بإنشاء وزارة لشؤون الأزهر، ورأى أن هذه الوزارة تحد من استقلالية هذا الجامع العريق، وتحد من سلطاته، فقال فى نص الاستقالة: «ليس أمامى إلا أن أضع استقالتى من مشيخة الأزهر بين يديكم بعد أن حيل بينى وبين القيام بأمانتها».