كالعادة فى كل الأعياد أذهب إلى المنيا لكى أشارك الأهل والأصدقاء بالأعياد، المنيا التى تبحث عن الفرح من قلب الحزن وبعد صلاة العيد تبدأ الأسر المصرية فى إعداد إفطار العيد، وينطلقون إلى كورنيش النيل مكان الفرح عند المنياوية، ويضعون طعام إفطار أول يوم عيد الفطر فى مصر، أكلة يوم العيد، تشتهر بتناول المأكولات البحرية من الأسماك، الرنجة، الفسيخ، التونة، السردين وغيرة من أنواع الأسماك المختلفة، كما تشتهر أيضا بالفطائر كنوع من مظاهر الاحتفال.
تبدأ رحلة التهنئة بزيارة مديرية الأوقاف والمحافظ والقيادات الشعبية والتنفيذية، وباقى اليوم أتنقل بين أصدقائى محمد حسن والدكاترة أشرف ومحمد صبرى إسماعيل أصدقاء الطفولة والعمر، ومحمد صبرى جارنا والصديق الدائم.
فى طفولتى كنت أذهب مع أصدقائى فيما يسمى «طلعة العيد» لزيارة من سبقونا للعالم الآخر فى المقابر، ورغم إن معظم الشرائع قد نهت عن ذلك ولكنها عادة مصرية من أيام الفراعنة، يوم «الوقفة» أو «ليلة العيد» يقوم المصريون بزيارة قبور أحبائهم الراحلين عن الحياة للقيام بما يسمى «الطلعة» وتوزيع بعض الفطائر والفواكة وأحيانًا الأموال على الفقراء، طلبًا لرحمة السماء لهؤلاء الراحلين، ومازال حتى الآن البعض يفعلها كنوع من تذكر الموتى والترحم عليها، ولكن الأغلبية توزع ما كانت تعدة لـ«الطلعة» على الملاجئ والفقراء.
فى هذا اليوم أيضا نجد الآباء الأساقفة والكهنة والقيادات المسيحية تذهب إلى الأزهر وممثليه ومشايخه فى المحافظات للتهنئة، وأكل الكعك وتبادل الحكايات والقصص التى تؤكد وحدة شعبنا رغم التحديات.
كل سنة وأنتم طيبون، والمصريون بخير، ومن حشا الروحانية المصرية فى التضحية والفداء، وتقوى المصريين بالأعياد فى بر مصر، حيث إن المصريين أكثر الأمم احتفالا بالأعياد، رغم أنهم يخافون من الفرح، ويقولون فى أمثالهم: «اللهم اجعل عاقبة الفرحة خيرا»، لكنهم يتوقون للفرح قدر عشقهم للحزن، فهم يضحكون حتى البكاء، ويسخرون من أحزانهم ضحكا، ويعضون على الجرح، ويزرعون القمح، والأطفال فى أرض خصبة يروها بدمائهم».
المصريون يبحثون دائما عن الفرحة من قلب الحزن، ومن ثم فهم أكثر الأمم احتفالا بالأعياد، «33 عيدا» على مدى العام، أهمها الأعياد الدينية مثل: «رأس السنة الهجرية، عاشوراء، المولد النبوى الشريف، عيد الفطر، عيد الأضحى، عيد الميلاد المجيد، عيد الغطاس، عيد دخول المسيح مصر، عيد دخول المسيح القدس، نياحة العذراء - ذكرى وفاتها، عيد العنصرة، عيد الصعود»، إضافة للأعياد المصرية التى يحتفل بها المصريون جميعا بجميع أطيافهم، «عيد الأم، عيد الحب، وفاء النيل، شم النسيم»، كذلك الأعياد الوطنية، «عيد الشرطة، عيد تحرير طابا، عيد تحرير سيناء، 23 يوليو، 6 أكتوبر»، كما توجد مناسبات اجتماعية، وعادات مصرية ترقى إلى درجة الأعياد مثل، «السبوع، وهو احتفال بالمولود عند بلوغه 7 أيام من ولادته»، ليلة الحنة، احتفال يتم للعروسين فى بيت الأهل فى الليلة السابقة للزواج، ويتم فيها نقش الحنة على يدى ورجلى العروسين»، إضافة للطهور للأطفال «الختان»، وأعياد الميلاد.
كل ذلك مزيج من التداخل المصرى الإنسانى من رقائق الحضارة القديمة والحديثة شرقا وغربا، فأعياد الميلاد مشتقة من الحضارة الغربية، والختان عادة يهودية، والمصريون رغم أنهم من أهل السنة يحتفلون بيوم عاشوراء فى 10 محرم، حبا فى آل البيت وتضامنا مع المظلوم، والأقباط المصريون يتماهون مع حزن الحشى المصرى فى أسبوع الآلام بصوم الجمعة العظيمة ويشربون المشروبات الأكثر مرارة، وكان شهر رمضان قد التحم بصوم الرسل، الذى يحل بعد الاحتفال بعيد العنصرة وهو عيد حلول الروح القدس على تلاميذ السيد المسيح، وفقًا للعقيدة المسيحية، وهو اليوم الخمسين بعد القيامة والعاشر بعد عيد الصعود ويستمر لمدة 37 يومًا وينتهى الصوم بيوم عيد الرسل.
إن هذا الصيام يطلق عليه الصوم الخمسينى، لكونه يبدأ بعد عيد القيامة بـ50 يومًا، وينتهى بيوم عيد الرسل الذى يكون ثابتًا فى موعده يوم 13 يوليو المقبل من كل عام.. ويتشارك المسيحيون مع المسلمون فى أكل الأسماك والرنجة فى يوم العيد، لأنه فى صوم الرسل يمتنع فيه الأقباط عن تناول المأكولات التى فيها لحوم وروح ومشتقاتها من جبن وألبان، فهو صوم ثابت منذ العصر الرسولى، وأهميته الروحية تكمن فى أنه كان أول صوم للرسل، فضلاً عن أنه تم فيه أول عمل للكرازة والتبشير.
كل تلك المناحى جعلت المصريين يرتبطون بالصوم روحيا ودينيا وارتباط ذلك جليا بالهوية المصرية منذ عصور الفراعنة وحتى الآن، هكذا فالروحانية والزهد والصوفية فى القلب والحشا، فالمصريون مسلمون وأقباطا يحتفلون بما يزيد على مائة مولد واحتفالية لولى أو قديس أو قديسة، إضافة إلى الأذكار التى يذكر فيها اسم الله وتروى فيها قصص السلف الصالح، هذه الهوية الروحية لشعبنا العظيم تتجاوز كل فهم.. وتتجذر فى المخيلة وتنمو من جيل إلى جيل فى الوجدان.
الرئيس عبد الفتاح السيسى كان قد ختم رمضان بالإفطار مع عائلات الشهداء، ثم مقابلة أبناء وأهالى الشهداء، يوم العيد، للاحتفال معهم، داعيا الجميع إلى الحضور ليكون هناك رسالة أمان بأن المصريين معهم ولن ننساهم فى مثل هذا اليوم، ونحتفل بيهم ونحاول نعوض جزء ليهم، وقد كان يوما جميلا مع أبناء الشهداء، فى دلالة تؤكد أصالة الشعب والقائد للشهداء الأبرار، فالمصريون لا ينسون من ضحوا من أجلهم ودفعوا حياتهم من أجل الوطن.
عيد فطر سعيد أعاده الله على المصريين بخير وسلام.