فى اليوم الخامس لمباريات كأس العالم فى روسيا 2018 اخترنا أن نقدم لجمهور القراء وعشاق الساحرة المستديرة فى سلسلة مكتبة كأس العالم، فصلا من كتاب "جنون المستديرة" تحت عنوان فرعى أغرب حكايات الكرة وأبطالها، الصادر عن دار العربى للنشر، وفى هذا الفصل نتعرف على تاريخ "حب الفانلة" من بدأ؟ وما هى الأمور التى تتعلق بصناعة وارتداء فانلة المنتخب الوطنى؟
قميص فريق كرة القدم، أو "الفانلة" كما يحب المشجع أن يسميه، هو علامة الهوية ورمز الانتماء، حمل قميص النادى تلك المعانى والرموز منذ عصور الهواية، أيام كان اللاعب يغسل قميصه بيديه بكل الفخر، رغم أنه لا يتقاضى قرشًا واحدًا مقابل ذلك، وأيام لم تكن القمصان تباع للجمهور لزيادة موارد النادى.
فى تلك الأيام، كان اللاعب يبقى فى ناديه لفترة طويلة، أطول من الروايات الروسية، وكان يكفيه فخرًا أنه لاعب فى الفريق الذى عشقه وشجعه وهو صغير، ولا يتردد لحظة عن توقيع عقد يدوم مدى الحياة، بمقابل مادى قليل للغاية، وأحيانًا ما يكون المقابل هو الحذاء الذى يلعب به.
وجاء عصر الاحتراف، وصرنا أمام لغز عاطفى غاشم: هل يمكن للاعب أن يشجع فريقًا لمجرد أنه يكسب رزقه منه؟ ففى هذا العصر، حيث يدرك اللاعب أن بمقدوره الانتقال من نادٍ إلى الآخر بسهولة، لم يعد أى عاقل يتوقع من لاعبى فريقه أن يذوبوا عشقًا فى شعار النادى، أو أن يبكى كمدًا كلما انهزم الفريق فى مباراة.
بدأ الوصف "حب الفانلة" حرفيًّا تمامًا، بمعنى الارتباط بقطعة ملابس لها مكانة خاصة للغاية، قبل أن يصير المعنى رمزيًا، يراد منه التأكيد على احترام قميص النادى، باعتبار ذلك من بين بنود عقد الاحتراف الذى وقعه اللاعب. وهنا لا بد أن نميز بين احترام اللاعب المحترف لقميص ناديه وبين اشتراط أن يكون اللاعب نفسه من مشجعى الفريق.
وحتى سبعينيات القرن الماضى، كان لكرة القدم "إتيكيت" صارم؛ ومن ذلك أن "شد فانلة" اللاعب الخصم فعل مشين يستوجب الاعتذار. وكانت قمصان كرة القدم لا تتسم بالمرونة التى هى عليها الآن، لذلك كان فى تلك الفعلة إيذاء كبير.
الأمر الثانى، هو ضرورة أن تكون الأرقام المطبوعة على القمصان من الخلف بالترتيب من 1 إلى 11، وأن تكون هذه هى أرقام اللاعبين الأساسيين فى أرض الملعب، أما بقية الأرقام فهى للجالسين على دكة الاحتياط. وكان كل رقم دلالة على مكان اللاعب فى الملعب، وكذلك تمييز لقدرات كل لاعب. وكان من المعتاد ألا يرتدى الرقم 10 إلا أمهر لاعبى الفريق وأكثرهم تميزا. هكذا، اكتسبت الفانلة قيمتين "جغرافية" و"معنوية"؛ أصبحت تحدد موضع كل لاعب فى المستطيل الأخضر والطريقة التى يتوقع الجمهور أن يعبر بها عن نفسه.
وحتى يمكنك أن تتخيل مدى قداسة هذا الأمر، أذكرك بما صادفه النجم الهولندى "يوهان كرويف" من متاعب ومشكلات قبل أن تقتنع إدارة فريقه برغبته فى أن يرتدى الرقم 14، رغم أنه عبقرى الفريق ولاعبه الأساسى.
أما أول مَن فكر فى أن تقوم شركة متخصصة بتصنيع ملابس فريق كرة القدم، بحيث تحمل الفانلة شعار الشركة، ويكون من حق الشركة بيعها للجمهور بمقابل مادى، فكان "دون ريفي"، المدير الفنى لنادى "ليدز يونايتد" الإنجليزى فى منتصف السبعينيات.
سرعان ما انتشرت الفكرة، وشيئا فشيئا تحولت الفكرة إلى بداية صناعة وتجارة تربح المليارات سنويًا. أما أول إعلان ظهر على قميص فريق، فكان لشركة تصنيع السيارات الإنجليزية "ساب" فى عام 1978، وقت أن اختارت أن ترعى فريق "ديربى كاونتى"، وشهد عام 1979 طباعة اسم شركة "هيتاشى" اليابانية على قميص "ليفربول" الأحمر العريق. وتحول اللاعبون إلى لوحات إعلانية متنقلة، بمعنى الكلمة.
وفى البداية، رفض التليفزيون البريطانى إذاعة المباريات التى يرتدى فيها أى فريق قمصانا عليها إعلانات، حتى لا يجارى تلك الحيل التسويقية، لا لشيء سوى أنه لم يكن يستفيد من ذلك ماديًّا.
واضطرت الأندية إلى أن توقع عقودًا تنص على أن الفريق لن يرتدى قمصانًا تحمل إعلانات فى أى مباراة تليفزيونية. ومع حلول عام 1983، وافقت هيئة الإذاعة البريطانية أخيرًا على إذاعة المباريات من دون شروط إعلانية، بعد أن صارت قيمة تلك العقود الإعلانية السنوية خرافية للغاية.
"الأسلوب يعبر عن شخصية الإنسان"، هكذا كتب "بوفون" (ليس حارس المرمى الإيطالى الأشهر، ولكنه كاتب فرنسى عاش فى القرن الثامن عشر: "جورج لوى لوكليرك"، "كوم دى بوفون").
صارت تلك العبارة من العبارات الخالدة لاحقًا فى عالم الموضة. ودخلت الموضة عالم كرة القدم. وبدايةً من الثمانينيات، صار على كل فريق أن يحدد فى كل موسم ثلاثة قمصان بثلاثة ألوان مختلفة، على أن تحمل شعار الفريق فى كل الأحوال. والسبب هو أن يكون هناك تمييز بين أن يخوض الفريق المباراة على ملعبه وأن يخوضها فى ملعب المنافس. وكذلك صارت هناك حرية كاملة فى تحديد الأرقام على ظهر تلك القمصان. وبالتالى تحولت سوق الرعاية التجارية والإعلان من مجرد بدايات خجولة إلى صناعة متكاملة تدر مليارات سنويًا.
وتجسدت حقيقة واضحة: كرة القدم هى أكبر شغف عرفه البشر من حيث تحقيق المكاسب المادية. ويرى "فليكس فرنانديز"، حارس المرمى الذى صار معلقًا على المباريات، أن هناك ما لا يقل عن 270 مليون شخص فى أنحاء العالم يرتبط رزقهم حرفيًا بعالم كرة القدم.
تحول رمز الهوية إلى مصدر لتحقيق المال. وصار بيع منتجات النادى مربحًا أكثر من الأهداف التى يسجلها لاعبو فريق النادي. وأصبحنا فى عالم تحسم فيه صفقات اللاعبين بتحديد كم ما سوف يتم بيعه من قمصان تحمل أسماءَهم. حتى تحولت أسماء بعض اللاعبين إلى علامات تجارية فى حد ذاتها، ففى المتجر الرسمى لريال مدريد، يُباع القميص الأزرق الذى يحمل الرقم 1 بسعر أكبر إذا أردت أن يُطبع عليه اسم "كاسياس" أيضًا.
وبرغم صمود "برشلونة" على مدار نصف قرن أمام الإغراءات الإعلانية، فإن النادى استسلم أخيرًا للغواية، حتى وإن قرر أن تكون البداية تدعيمًا لرسالة سامية تتمثل فى شعار "اليونيسيف"، وفى أن يضع شعارًا صغيرًا على الأكمام، ليعرف الناس أن فى كاتالونيا محطة تليفزيونية خاصة بها.
وقديمًا، قال "أوسكار وايلد": "بوسعى مقاومة أى شيء، إلا الإغراء". لقد بقى "برشلونة" متشبثًا بإعلان "اليونيسيف" طوال فترة رئاسة "خوان لابورتا"، ولكنه خضع لراعٍ تجارى صريح فى عهد "ساندرو روسيل"، وصارت القمصان تروج لمؤسسة قطر. نحن هنا أمام نموذج للتحول التجارى الصرف. من رعاية الطفولة إلى تشجيع الاستثمارات. نحن هنا أمام مثال جديد على المهارة فى استغلال المشجعين شديدى الارتباط والولع بناديهم.
لم يعد من المنطق أن تطالب اللاعب بالولاء للنادى، بينما النادى نفسه لم يعد يعترف بكلمة ولاء. وصار الإخلاص ترفًا لا يُبديه سوى المليونيرات؛ "باولو مالديني" كان رمزًا لميلانو، وكذلك هو "توتي" بالنسبة لروما، و"بوفون" ليوفنتوس. هؤلاء من نخبة لاعبين أعلنوا أنهم سيبقون فى ناديهم حتى الاعتزال. وكذلك هناك حالات استثنائية بين المديرين الفنيين، ومنهم "جى رو" الذى تولى الإدارة الفنية لنادى "أوكسير" الفرنسى على مدار أربعة وأربعين عامًا.
وعمدت بعض الأندية إلى التأكيد على دلالة القميص الذى يمثل الفريق من خلال أسلوب فيه الكثير من الدراما. ومن تلك الأندية، نادى "شالكة" الألمانى، الذى ما يزال مصرًا على التأكيد على هويته فى عصر "البوندزليجا" الاحترافية. ففى كتابه عن النادى، يتحدث "ألبرتو لاتي" عن تقاليد النادى التى تُحتِّم عقد المؤتمرات الصحفية للتعريف بلاعبى النادى الجدد عند أحد مناجم الفحم، على سبيل الفخر بالمدينة العمالية العتيدة، وحتى لا ينسى اللاعبون أنهم يمثلون أحلام أهلها؛ متواضعى الدخل فى أغلبهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة