كان الشيخ أحمد التونى بالنسبة لنا كائنا أسطوريا، بجمال صوته وطقوسه المختلفة التى كنت أسمع عنها ولا أراها، يأتى إلى القرية مرة واحدة فى العام، فى ذكرى المولد النبوى الشريف، لكنه يكون فى أقصى الشرق بعيدا جدا، كما أنه يبدأ مدحه متأخرا، فلم أتمكن من رؤيته وجها لوجه أبدا، لكن فى الصباح تنتشر الحكايات عن تفانيه الغريب واتحاده مع كلمات المدح.
بعد سنوات طويلة رأيته، كان نحيفا جدا فلا شىء فيه زائد عن الحاجة، يمكن أن أقول إنه كان على فطرته تماما، تخيلته طفلا صغيرا يغنى وهو يسير خلف «ساقية» أو ولدا عاش معظم حياته فى «ترحيلة طويلة» يغنى للقطن أثناء جمعه، دائما يمنحنى الإحساس بأنه يغنى لنفسه لا يرى جمهوره ولا يسعى لجذب انتباهه، مع أن الجميع يكون منتبها طوال الوقت.
كل المداحين الذين رأيتهم سواه كانوا متأنقين جدا، بشكل مبالغ فيه، ملابسهم أكثر من نظيفة، وجوههم تبرق من الصحة والعافية، بينهم وبين الناس مسافة أكثر من كافية، أما أحمد التونى، فكان قريبا جدا لدرجة أنك تظنه رجلا فقيرا جاء مع الجمع كى يحيى روحه بذكر الرسول الكريم وآله.
عندما رأيته للمرة الأولى، عرفت كيف أوجد الله الإنسان الأول، آدم، حتما كان يشبه أحمد التونى، خفيفا على الأرض، كأنه لا يريد ارتباطا بها، ملامحه منحوتة، تعكس حكايات سنين عمره الفائتة، له إيقاعه الخاص وهنا يكمن الجمال.
مثل الإنسان الأول، لم يكن يعرف «الخطوة المقبلة»، إنه يسعى خلف ما يراه «جمالا»، لذا يغير نبرات صوته طوال الوقت، ليس بالطريقة الصحيحة ولا بالطريقة الخطأ، لكنها بالطريقة التى تجعل مزاجه «معتدلا»، هو يتذوق الكلمات ولا يرددها عبثا، يغمض عينيه أحيانا وينوع فى الجملة الواحدة، فيقولها هادئة ويقولها صاخبة، مرة واضحة ومرات مضغومة الحروف لا تفهم ما الذى يقوله، لكن الفرقة الموسيقية، وهذا ما أثار اهتمامى دائما، كانت تعرف كيف تتبعه، مع أنه لم يكن يلتزم بشىء.
بالتأكيد كان يلتزم بشىء مهم، هو الحب، كان جوهر مدحه النبوى هو محبة آل البيت، ويعرف أن النظام الذى يتبعه الآخرون لأداء المدح، ليس شرطا، للوصول، لأنه يعرف أن «الحب يلعب بالأرواح» وقد سقطت روحه منذ زمن فى متاهة اللعب.