يعتقد كثير من الناس أن بناء المساجد لا يضاهيه عمل آخر من أعمال الخير على الإطلاق، فتجدهم يصرون على الإنفاق فى بناء المساجد دون غيرها من مشروعات الخير أو أوجه البِر الأخرى.
ولا خلاف حول أهمية المساجد وعظم الأجر العائد على بانيها فردًا كان أو مؤسسة، فهى بيوت الله فى الأرض وفيها يُعبد، ويكفى من الأجر ما يعود على بانيها من ثواب بعدد ركوع الراكعين وسجود الساجدين، ولكن من الخطأ الشديد الاعتقاد بأن الثواب العظيم ينحصر فى تشييد المساجد، وأن غيرها من أعمال الخير لا يرقى إلى الثواب العائد على بانيها، فالأجر مرتبط بقيمة العائد من فعل الخير ومدى حاجة الناس إليه، فلا يقل أجرًا عن بناء مسجد تشييد مستشفى أو تجهيزه ليعالج فيه المرضى وخاصة مرضى الأمراض المزمنة والخطيرة، أو بناء مصنع لتشغيل الشباب يكون سببًا فى كفاية أسرة وغنائها عن قهر الحاجة وذل السؤال، أو تعبيد طريق يعانى الناس من السير فيه لوعورته، أو بناء دار للأيتام أو المسنين، أو توفير سكن للمغتربين وخاصة طلاب العلم الذين لا يجدون مكانًا لإقامتهم مدة اغترابهم ولا قدرة لهم على استئجار مقر يقيمون فيه، وغيرها من الأعمال التى قد يكون الناس فى حاجة إليها أكثر من حاجتهم لبناء مسجد جديد، بل ربما يكون الثواب العائد من هذه الأعمال أعظم، لحصول النفع الحقيقى الذى لم يكن ليتحقق لولا توفيق الله لفاعل هذا الخير أو المساهم فيه.
ولن نذهب بعيدًا إذا قلنا إن مشروعًا تجاريًّا يوقف ريعه على الفقراء، أو طلبة العلم، أو أسر الشهداء والمصابين، أو زواج اليتيمات، أو قضاء ديون الغارمين، أو توفير السلع الغذائية الأساسية بسعر التكلفة أو بهامش ربح لا يرهق الفقراء ولا يضاعف أعباءهم ولو من باب قطع الطريق على استغلال التجار وجشعهم ومغالاتهم على الناس وسلوكهم مسلك الاحتكار والغش والتدليس وغير ذلك من سبل محرمة للكسب، كل تلك الأعمال وغيرها لا يقل أجرًا عن بناء المساجد؛ لأن المسجد «الجديد» إن لم يُبنَ فسيجد الناس غيره على بعد حجر منه، فإن لم يجدوا فأرض الله جُعلت لنا مسجدًا وتربتها طهورًا، أما ما ذكرته آنفًا كأمثلة على أعمال الخير وأوجه البِر، فإن لم يقم بها أصحاب الأموال بقى العنت والمشقة، فضلًا عن الضيق والضجر الذى ربما يؤدى إلى أعمال غير مشروعة، مسيطرًا على الناس!
وإذا كان خير الناس أنفعهم للناس، وهذا ما ينطبق على ما سبق ذكره من أمثلة لأعمال الخير التى يظهر النفع العائد منها على كثير من فئات وشرائح المجتمع، فإن كثيرًا من المساجد قد لا يعود على بانيها بأى أجر ولا يفيد الناس منها بأى نفع، بل إنهم قد لا يكون لهم فيها أى حاجة، فبناء المساجد فى الإسلام ليس حيلة لإدخال بعض المرافق كالمياه والكهرباء مثلًا إلى عقار فلان أو رصف طريق يؤدى إلى مزرعة علان، وليس سبيلًا لتوظيف بعض عمال لا يراهم الناس حتى بين المصلين؛ حيث تكاد تنحصر علاقتهم بالمسجد فى قبض رواتبهم نهاية كل شهر فى حين أنهم «يسعون على أرزاقهم» فى أعمال أخرى! وهؤلاء لا يدرون أن الأجر الذى يتقاضونه نظير عملهم المفترض فى المساجد لا بركة فيه وإن كثر، بل إنه سحت لأنهم أكلوه بغير عمل، ومما يؤسف له أن بعض المساجد ربما يُبنى بقصد التفوق سمعةً على بنى فلان، فيجتهد بنو علان فى بناء مسجد على بعد خطوات من المسجد الآخر مع زيادة زخرفة وتجويد فى التأسيس وانتقاء خطيب شهير ليكون مسجدهم جاذبًا للمصلين ومهيمنًا على مسجد جيرانهم!
وجولة قصيرة فى أى قرية مصرية، وربما فى بعض المدن، تقف فيها على هذه الحقائق المرة، فبين المسجد والآخر مسجد بُنى لغرض دنيوى، وبعد أن كان يجتمع أهل القرية جميعًا فى مسجد جامع يتعارفون فيه ويتفقد بعضهم أحوال بعض، أصبح المسجد خاصًّا بعائلة فلان ولا يجتمع فيه إلا أهل بيت أو بيتين، ومثل هذه الأحوال ترتب عليها قلة عدد المصلين فى كل مسجد، وتدنٍّ شديد فى مستوى الوعى نتيجة العجز الشديد فى الأئمة المتقنين، مما أدى إلى أن صعد منابر هذه المساجد ثلة ممن لا علاقة لهم بالخطابة ولا بعلوم الدين أصلًا من باب إنقاذ الموقف وخاصة فى صلاة الجمعة حتى لا تفوت الناس الصلاة.
وقد بيَّن ربنا عز وجل فى كتابه العزيز أن بعض المساجد قد تعود على بانيها بالإثم وليس بالثواب المرجو من بناء مسجد، فقال تعالى «وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
ولذا، فإنه يجب تصحيح ثقافة الناس عن أفضلية أعمال الخير وأوجه البِر وعدم حصرها فى بناء المساجد أو الاعتقاد أنها الأفضل من بين أعمال الخير على الإطلاق، فرُبَّ إطعام للفقراء - ولو بجنيهات قليلة - أو مداواتهم أو إنارة طريقهم أو إذهاب خوفهم ووحشتهم يفوق أجر بناء كثير من المساجد التى لا حاجة للناس إليها، وأظن أنه لا يخفى على الناس- أو كثير منهم- أن سقى كلب أدخل الساقى الجنة، وأن حبس قطة حتى ماتت جوعًا وعطشًا أدخل حابستها النار، ولعل نظرة عابرة فى آية الزكاة التى حددت مصارفها تجعلنا ندرك أن سد حاجة الفقراء والمساكين تأتى فى صدارة أعمال البِر التى تشملها مصارف الزكاة، فى حين يدخل بناء المساجد فى المصرف السابع منها «فى سبيل الله»، والتقديم فى الذِّكر دليل على الاهتمام والأولوية، يقول تعالى «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
وما يقال عن بناء المساجد يقال أيضًا عن كثير من الطاعات التى يظنها الناس على رأس أعمال الخير مع أن أقل منها كلفة ومشقة يفوقها أضعافًا مضاعفة فى الثواب عند الله، ومن ذلك حرص كثير من الناس على تكرار الحج والعمرة مع ما فيهما من إنفاق ومشقة، مع أن هناك أعمالًا أفضل بكثير من تطوعهم بالحج والعمرة كتصدقهم على الفقراء والمساكين والمرضى، وكفالتهم لبعض الأيتام أو تزويجهم، ورعايتهم لطلاب العلم، وتسقيفهم لبيت يعانى ساكنوه من برد الشتاء وحر الصيف... إلخ. ولو أن الناس غيروا ثقافتهم وصححوا فهمهم فى ما يتعلق بأفضلية أعمال الخير، ووجهوا تبرعاتهم وصدقاتهم الوجهة الأنفع للناس والأَوْلى للمجتمع، لخفت أعباء الحياة على كثير من الناس، ولاستغنى المجتمع، ولزاد الحب والوئام بين الناس، ولشعر الجميع، فقراء وأغنياء، بما يمكن تسميته الأمان الاجتماعى، وهذا من أنبل وأسمى الغايات التى جاء بها الإسلام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة