صدر عن المركز الثقافى العربى، بيروت، الدار البيضاء، كتاب "الفن العربى الحديث: ظهور اللوحة"، للكاتب شربل داغر، ويقع الكتاب فى 366 صفحة من القطع الكبير، مشتملًا على صور أعمال فنية ملونة، بعضها غير معروف، وجاءت لوحة غلاف الكتاب للفنان اللبنانى حبيب سرور (1860-1927).
جعل الكتاب من "ظهور" اللوحة الزيتية موضوعه فى حراك عثمانى-عربى-أوروبى، إذ إنها انتقلت، أو استُوردت، إلى هذه البيئات من خارجها "من المدن الإيطالية، بداية، فتتبعَ الكتاب وفحص دخول هذا العمل الفنى الجديد إليها، من المغرب الأقصى إلى إمارات الخليج.
ويقول الكاتب شربل داغر فى مقدمة الكتاب: لقد تحقق كتاب "الفرن العربى الحيث: ظهور اللوحة" من أن دخول هذه القطعة لم يكن بالسهل أو بالهين، إذ "استقبلتْها" (أو اعترضت استقبالها) مواقف وقيم واعتيادات وسلوكات متأتية من أن الصورة، ولا سيما التمثيلية، تحولت إلى "مسألة" إسلامية، على مر العصور، فى أحكام الفقهاء قبل سياسات الخلفاء أو الولاة. لهذا فإن "ظهور" اللوحة عربيًا لم يكن فقط بالظهور الفنى، بل كان أيضًا ظهورًا سياسيًا واجتماعيًا؛ وما رافق هذا الظهور من أحوال قبول واعتراض يعود إلى أسباب دينية واجتماعية، قبل أن تكون تقنية أو مهنية أو جمالية.
لهذه الأسباب وغيرها اتجه الدرس لتفقد انبثاق اللوحة فى القصر والبيت قبل صالات العرض والمتاحف، وفى كتابات الرحالة والمؤلفين من أوروبيين وعرب قبل المؤرخين الفنيين.
كما سعى الكتاب إلى التعرف على قبول اللوحة وانتشارها، ليس بين الفنانين العثمانيين والعرب الناشئين وحدهم، وإنما قبل ذلك فى مجتمعات، وبين أفراد كانوا، فى عهود سابقة، "كارهين" (حسب العبارة المأثورة) لوجودها، وللمعانى والقيم التى تتمثل فيها، أو تحضر معها. كيف لا، و"ظهور" اللوحة تعدى ظهور "قطعة" مربعة أو مستطيلة أو طولية، ملونة، فوق جدار، أو تُطوى وتَخفى عن الناظرين، إذ بدتْ لبعضهم مثل "غزوٍ"، أو "خرقٍ"، لمجتمعات بقيت "حصينة" (بمعنى من المعانى) طوال قرون، وذات مرجعية قيمية وجمالية تحتكم إليها من دون غيرها. هكذا أتى "الدخول" بطيئًا، محفوفًا بالاختلافات والارتدادات؛ وما بدا مطلوبًا أو ميسَّرًا فى نطاق، مثل القصر أو القنصليات أو الكنائس أو بيوت الأمراء والأعيان، كان مكروهًا فى نطاق آخر، ولا سيما بين الفقهاء، أو فى "علانية" المجتمع.
لهذا يمكن القول بأن هذه القماشة المشدودة أو المثبتة فوق إطار خشبى كانت أشبه بمرآة عريضة مبسوطة بين أطراف المجتمع، وتعرض بالتالى أحواله: لجهة ما يريده (أو لا يريده)، وما يطلبه (أو لا يطلبه)، من صُور، لنفسه، وعن نفسه. هذا مدعاة لأكثر من سؤال: أتكفى المسلم، والعربى، اللغة العربية بتعبيراتها المختلفة، من دينية إلى أدبية، ولا يريد منافستها بغيرها أم أن محاربة الديانة الإسلامية للعقيدة الوثنية فى الجاهلية، المتمثلة فى نصب وتماثيل وصور فنية، بقيت فاعلة، وأساسًا فقهيًا وقيميًا، بعد قرون وقرون على انتهاء العهد الوثنى؟ أليست هناك فوارق بين الصورة الوثنية والصورة الفنية ؟ ماذا عن "ظهور" اللوحة عربيًا: أَظَهرتْ وفق أحكام الفقهاء أم وفق متطلبات أخرى ؟ أَظَهرتْ فى دورة واحدة، وفق الوتائر عينها، فى مجتمعات عربية متباينة السياقات والأحوال ؟ أعانت هذه كلها من المصاعب عينها؟ ماذا عن حضور الصورة الفنية القديم بين الجماعات المسيحية العربية، من أيقونة وغيرها؟ أَبَقيتْ على حالها القديمة أم "تكيفت" بدورها مع متوجبات اللوحة الزيتية؟
هذا ما طمح الكتاب، فى خطته، إلى معالجته، فاستعرض، فى أبوابه الثلاثة وفصوله العشرة، هذه المسائل وغيرها، وفق منظور تاريخى، شملَ المجال العثمانى، والولايات العربية فيه، فضلًا عن المغرب الذى كان خارج السيطرة العثمانية، فتعقبَ الأعمال الفنية فى بداياتها، وتعرف إلى فنانيها الأوائل والمؤسسين. وهو تتبعٌ وفحصٌ تاريخيان لهما أوجه اجتماعية كذلك، إذ يرصدان الأحوال والسلوكات والتمثلات، ولا يغيِّبان الجدالات التى رافقت أو اعترضت هذا "الظهور" الطارىء.
هذا السعى ما كان ليقوم من دون تنمية المدونة التاريخية والفنية المناسبة للفن العربى الحديث، ما اجتمعَ فى القاعدة الذهبية، وهى أن كتابة التاريخ تُقاس بوفرة مصادره، قبل الكلام عن المنهج المناسب فى درس الحراك والتجليات. هذا ما عملتُ عليه، على مدى سنوات وسنوات، بالعودة إلى متاحف، ومجموعات فنية خاصة، ومكتبات، بين عربية وعثمانية وأوروبية، فضلًا عن لقاءات واسعة مع فنانين مشمولين بالدرس. هذا ما أعاننى على تفقد أعمال فنية "مجهولة" أو "مغمورة"، أو على استخراج أسماء فنانين كثر (أكثر من مئة فنان) من كتابات خرجت من التداول، ما لا يجده الباحث فى كتب التاريخ الفنى، أو تاريخ الفنانين المعروف والمتداول فى أكثر من لغة وخطاب. وهى مدونة مكَّننى من الوصول إليها عاملون فى أكثر من مكتبة ومتحف، فضلًا عمن تكرم بإرسال نسخة من كتاب قديم، أو نادر، أو صورة لوحة مجهولة : ليجدْ هؤلاء، كلهم، أينما كانوا، شكرًا علنيًا وثابتًا، على ما أعانونى عليه، إذ إنهم شركاء بدورهم فى هذا الجهد.
يحتاج الفن العربى الحديث إلى تاريخه (وهو، فى جانب منه، أوروبى وعثماني)، وإلى اندراجه فى الثقافة المحلية، وفى تطلعات اجتماعية وخيارات ذوقية لدى نخب محلية، خصوصًا وأن هذا الفن عرفَ نقلة قوية فى العقود الأخيرة، تمثلتْ فى حضور متزايد لأعمال الفنانين العرب فى منتديات سوق الفن العالمى وفى متاحفه الكبرى. كما تمثَّلتْ، قبل ذلك، فى قيام متاحف لحفظه وعرضه فى العالم العربى، فضلًا عن صالات العرض، وفى نشوء مجموعات متعاظمة لمقتنيه، ولا سيما فى بلدان الخليج. وهى مؤشرات متراكمة عن قبول ثقافة الصورة، بما فيها الفنية، لكنها قد تشير كذلك إلى قبول "مشروط" بمجموعة من المسبقات والإكراهات، ومن الممنوعات والمرغوبات.