حالة غير مسبوقة تلك التى يمر بها عالمنا العربى ومحيطنا الإسلامى، فقبل عقد مضى من الزمان كنا نعيب على هيئاتنا ومنظماتنا العربية والإسلامية الجامعة الاكتفاء بعبارات الشجب والتنديد والإدانة والاستنكار، وربما البيانات شديدة اللهجة واستدعاء سفير الدولة أو الدول المعتدية وسحب سفرائنا منها، للتعبير عن موقفنا إزاء انتهاك حق من حقوقنا الوطنية أو العربية أو الإسلامية، وكان ذلك يحدث فى مواقف أقل مما هى عليه الآن؛ حيث تحدى مشاعر أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين حول العالم، وإقامة مستوطنات احتلالية على أرض العرب والمسلمين يسمونها «سفارات» ظلمًا وعدوانًا، وقتل وتشريد مئات الألوف من المسلمين الروهينجا فى أبشع صور العنصرية والاضطهاد الدينى فى القرن الحادى والعشرين، وغير ذلك من أحداث مفجعة يمر بها عالمنا العربى وأمتنا الإسلامية، وإنما كانت تصدر تلك البيانات وتُتخذ تلك المواقف وتجتمع لها منظماتنا الجامعة بحضور أعلى مستوياتها عقب شروع الصهاينة بحفريات أسفل المسجد الأقصى الأسير أو منع الفلسطينيين من دخول المسجد الأقصى للصلاة فيه أو ممارسة بعض العنف ضد الفلسطينيين.
ومع قوة عبارات تلك البيانات التى كانت تصدر فى المواقف المختلفة وشدة لهجتها، حيث كانت أحيانًا تحمل تهديدًا ووعيدًا، فإنها لم تكن ترضينا نحن العرب والمسلمين ولا تهدئ من سخطنا وغضبنا تجاه الواقعة، وكنا نتمنى أن تتخذ هيئاتنا ومنظماتنا العربية والإسلامية الجامعة بدلًا عن بيانات الشجب والإدانة هذه، مع قوة عباراتها وشدة لهجتها، مواقف عملية جادة كإعلان قطع العلاقات مع الدولة أو الدول المعتدية على أقل تقدير أو إنذار المعتدى بوقف الاعتداء ورفع آثار عدوانه خلال ساعات، وإلا فلينتظر جيوش العرب والمسلمين لتأديبه ورد عدوانه وتلقينه درسًا فى العزة والكرامة ونصرة المظلومين والمستضعفين من خلال بذل الغالى والنفيس والتضحية بالنفس والولد للذود عن حدودنا والدفاع عن مقدساتنا ونجدة إخواننا فى العروبة والإسلام.
ويؤسفنى أن أقول إن هذه البيانات التى كنا نعيبها ونعتبرها دون مستوى الحدث بكثير أصبحت الآن أقصى أمانينا بالنظر إلى ردود فعل هيئاتنا العربية والإسلامية الجامعة، تجاه ما تقوم به بعض الدول والكيانات ضد شعوبنا ومقدساتنا، ولكن هيهات هيهات، فقد تطور الزمان وتطورت معه العبارات! فمع تطور الاعتداءات ووصولها إلى شن حروب تدميرية تقتل كل يوم أكثر مما كان يُقتل فى أزمنة البيانات شديدة اللهجة فى معارك ربما تستمر أيامًا، ومع التحدى السافر والعربدة الأمريكية والصهيونية ومن يدور فى فلكهما، تطور خطابنا العربى والإسلامى ليتوقف عند سقفه الأعلى الذى يناسب العصر، وهو رفض القرار الجائر أو العمل الإجرامى، وربما التعبير عن الأسف وخيبة الأمل، ولا مانع من أن يتهور البعض، ويتهم صاحبة العصمة والعظمة بأنها لم تعد راعية للسلام، وكأنها كانت يومًا راعية للسلام، وربما يتهمها البعض بأنها تكيل بمكيالين مكيال للكيان الصهيونى طفلها المدلل وآخر لنا نحن العرب، وكأنها يومًا كالت بمكيال واحد!
لقد أصبح عالمنا العربى ومحيطنا الإسلامى فى أقصى درجات اللطف والعفو والتسامح والتمسك بالسلام كخيار استراتيجى حتى لو رفضه المعتدون رفضًا تامًّا، بل حتى لو أعلنوا الحرب علينا جهارًا عيانًا، وبلغ ضبط النفس أعلى درجاته لدى بعض دولنا وكبرى منظماتنا إلى درجة غض الطرف عن الحدث أصلًا، تاركةً بعض المتهورين والمتحمسين يصرحون بالعبارات المناسبة للعصر بما يكفى عن الأمتين العربية والإسلامية دون أن تكلف نفسها عناء الاجتماع أو إصدار صغير بيان، فهى منظمات كبيرة لا يصح أن تنشغل بهذه الأمور الصغيرة فى نظرها، لكن لا مانع لدى هذه المنظمات من الهرولة إلى واشنطن أو غيرها من عواصم الدول الكبرى لحضور اجتماعات أو المشاركة فى مؤتمرات لا طائل منها سوى الثناء على الأنظمة الغربية ودساتيرها وقوانينها لما فيها من حريات وعدالة ومساواة واحترامها لحقوق الإنسان والحيوان أيضًا، ولا مانع لدينا من التزام خطابنا بتقسيم القدس إلى شرقية وغربية والإقرار بأن ما يخصنا منها هو الجزء الشرقى دون الغربى حتى لو تحدث عنها الصهاينة والأمريكان كعاصمة موحدة للكيان الصهيونى «شرقية وغربية»، ولا مانع لدينا فى إطار تسامحنا ورغبتنا فى السلام الأحادى أن نصف الكيان الصهيونى بـ«دولة إسرائيل»، فى حين أنهم يعتبرون الفلسطينيين مجموعات إرهابية!
إن هذا الأداء المتخاذل لهيئاتنا ومنظماتنا العربية والإسلامية الجامعة هو نتيجة طبيعية ومنطقية غير مستغربة فى ظل النجاح الباهر الذى حققه أعداء أمتنا التاريخيون من خلال تغريبنا عن ثقافتنا وهويتنا وتحطيم رموزنا وشيطنتنا وشرذمة دولنا وتفريق كلمتنا وتدمير غالب جيوشنا والتخطيط للقضاء على البقية، فلا يمكن لأمة هذا حالها أن يطالب بعض المتحمسين فى دولة منها أن تتخذ موقفًا يثلج صدور أبنائها ويلبى طموحاتهم ويطفئ جمرة الغضب فى نفوسهم وهم يرون إخوة لهم يُقتلون بدم بارد دون أن يحرك العالم ساكنًا، ومن ثم فإنه من الظلم تحميل قيادة دولة واحدة، أو بعض الدول، مسؤولية حماية مقدساتنا ونجدة إخواننا فى فلسطين أو فى بورما أو فى غيرهما.
وعليه، فإنه سيبقى الشعور بالظلم والقهر والإحساس بالخزى والمهانة الذى عاد من جديد بعد أن ولَّى فى انتصار السادس من أكتوبر العظيم عام 1973م، حتى تتمكن أمتنا من استحضار ما قبل أكتوبر، وتنفض عنها غبار ما أوقعها فيه أعداؤها، وتبتعد ولو قليلًا عن أحضانهم ووصايتهم، وتتوقف عن تلبية أوامرهم وتقديم ثروات شعوبها قربانًا لهم، وترفض التفريط فى تراثها وثوابتها وطمس هويتها إرضاءً لهم، وما ذاك على الله بعزيز وإن رأيناه بعيد المنال.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة