يشاء القدر أن يكون الفقير رفاعة رافع الطهطاوى هو باعث النهضة فى ربوع مصر والعالم العربى والإسلامى، وهو الذى وصفه الدكتور محمد عمارة، بأنه ناضل نضال أصحاب الرسالات، من أجل أن تصل الثقافة والحداثة إلى مصر، فتعمر مطابعها بفضل ما كتبه وترجمه هو وتلامذته، وتتقدم جيوشها بفضل عمله بها ونقلها للعلوم العسكرية أثناء زيارته لباريس، وبرغم أن منجز «الطهطاوى» فى الجانب الفقهى والدينى يسير، لكن هذا لا يمنعه من أن يكون من أكبر فقهاء التنوير فى العالم الغربى، بل إن شئت قل أكبرهم، ذلك لأنه طلب العلم، وهى الفريضة الإسلامية الكبرى فصار من أفاضلنا، وهو الذى جاهد بعلمه فحافظ على هويتنا وبلدنا، وهو الذى كون بضخه الدماء الجديدة فى أوصالنا شخصيتنا الحديثة التى وقفت أمام المحتلين بالمرصاد، وإن كان من الثابت أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل، فقد آمن رفاعة بوطنه ودينه وهويته، وعمل بكل ما أوتى من قوة على تدعيمهم، فكان مؤمناً خالصاً يحفظ كتاب الله ويجتهد فيما لا يجد فيه نصا، ويبنى حضارة جديدة، متبعا سنة الأولين الذى كانوا يعملون بحديث رسول الله «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أولى بها».
فى مدينة طهطا سنة 1801 بأقاصى صعيد مصر ولد هذا الرجل يعانى من الفقر، بعد أن جرد محمد على آباءه مما كانوا يتحصلون عليه من حصيلة الأراضى الزراعية، باعتباره أحد الأشراف من آل بيت النبوة، فقد كان نسب والده يتصل إلى رسول الله مارا بالإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وكان لنشأة رفاعة فى هذه الأجواء وعمل أخواله بالقضاء الشرعى أكبر الأثر فى تكوينه الشخصى والأدبى والإسلامى، فقد حفظ صغيراً ما يدرسه طلاب الأزهر، كما حفظ القرآن الكريم كاملاً وصار عالماً بالنحو والفقه، وهو ما أهله للالتحاق بالأزهر الشريف وهو ابن ستة عشر عاما، وهنا درس أحاديث البخارى ودرس جامع الجوامع فى الأصول ومشارق الأنوار.
فى أى لحظة من اللحظات لم ينس هذا الأزهرى المعمم هويته الإسلامية، فبعد أن سد حاجة مصر من ترجمة العلوم والآداب التى هجرها سابقوه تبنى مشروعا لإحياء الفكر العربى الإسلامى على نفقة الخديو سعيد، فأمر بطبع جملة كتب قيمة من أعمدة كتب الفقه والتفاسير والأدب، واستمر هذا المكافح المجاهد فى عمله إلى ما يقرب من أربعين عاماً حتى أصدر من الكتب والتراجم ما يقرب من ألفى كتاب، فى حين أن تركيا وهى التى كانت عاصمة الخلافة لم تصدر فى قرن كامل سوى أربعين كتابا، ليبدد بهذا العلم الوافر وهذا الحراك الثقافى اللافت خرافات عاشت فى المجتمع المصرى وتوغلت، حتى أنه كان يستاء كثيراً من أن بعض العامة يعتقدون أن أسلافنا الذين بنوا الآثار الشاهقة كانوا أطول منا وأضخم، معللاً ذلك بالقول إنهم كانوا يعانون من «قصور الأذهان عن مقدار ما يحتاج إليه ذلك من علم الهندسة»، وهو ما لم يعد له مكان بعد ثورة الطهطاوى التنويرية العلمية التى وصلت ما انقطع من حضارة الإسلام والمسلمين.