كنت أحبه جدا، لست وحدى، بل أنا وإخوتى، نعرف قدره وقيمته، فهو جارنا الأقرب وعمنا الأكثر «صدقا مع نفسه»، إنه محمود السيد أحمد.
فى الزمن الأول فى الصعيد، كما أسمى طفولتى، كان الناس من حولى كتبًا مفتوحة، وبدون قصد أتأملها وأقرأها، طوال الوقت، فأقارن هذا بذاك، وأرى رد الفعل الذى يكشف عن المحبة أو غيرها، وأتعلم أن القلب له شؤون تخصه، وأنه الأصل الذى عليه القياس، وكان عمى محمود السيد رجلا يملك قلبا قادرا على «فرز» الناس ومعرفة الصالح من الطالح، لذا كنا نحبه.
أقول عنه كان محمود السيد أحمد رجلا مستقيما، وأقصد بالاستقامة هنا إدراكه لذاته ولنفسه ولمكانته ولمكانة الآخرين، فمعرفة قيمة الذات هى أول الوصول للراحة، فلا تقليل ولا تكثير، ولكن «استقلالية» متحققة، وكان عمى محمود السيد كذلك، لا يهين أحدا ولا يقبل إهانة من أحد، عاش ومات على ذلك.
وأقول عنه إنه «رجل صادق»، لأنه لم يكن فى حاجة للتظاهر بشىء أو تملق الآخرين أو الادعاء، كان يقول ما يشاء متى يريد، ويقوله كلما استوجب عليه قوله، لا الأشخاص ولا المواقف تجبره أن يفعل غير ذلك.
وأقول عنه كان رجلاً «متزنا» لا يبيح نفسه للناس، ولا ينعزل عنهم، بل هو موجود فى هذه الحياة بشروطه، لا يهادن الحياة ولا يناكفها، لكنها لو جاءت بما لا يحب لا يسكت عنها أبدا.
نعم، عندما كبرت بعض الشىء، وصرت أتأمل عمى محمود السيد، رأيته يشبه أبطال الروايات خاصة الصعيدية، كما أتخيلها، حتى على المستوى الجسدى، فهو رجل طويل ونحيف يسير فى استقامة فى طريقه لقضاء حوائجه، لا تراه واقفا فى غير اعتداد بنفسه ولا يضيع وقته فيما لا يفيد، وبالطبع هو قليل الكلام لا يقول سوى ما يفى بالحق والصواب.
بالطبع محبتى أنا وأخوتى لعمى محمود السيد، هو أمر عادى ومتوقع، لكن أن يحبنا «هو» كانت هذه هى الخطوة الأهم فى العلاقة التى تربطنا به، كنا أطفالا صغارا، وهو رجل منضبط جدا ومنتظم، كما قلت من قبل، لكن كل هذا الانضباط والالتزام والاستقامة والهيبة تتحول إلى شىء آخر عندما يلتقينا، أو نذهب إليه.
كان يتبسط معنا جدا، بطريقة تفاجئنا نحن، فنحكى عنها دائما للآخرين، قال لنا بأننا فى «غلاوة» الأبناء، وقلنا عنه إنه «عمنا وحبيبنا»، وتعلمنا منه أن القلب العامر بالحب لا يحتاج لكثير كلام ولا أن تراق مشاعره على طريق الحياة المختلف والمتشعب، فالمحبة شىء غال تذهب لمن يستحقها ومن نتحقق من صدقه واستقامته.
عندما مات عمى محمود السيد ترك حزنا كبيرا فى نفوس الجميع، لا أعتقد أننى رأيت مثله بعد ذلك، ويظل أثره «القيمى» باقيا ما بقينا.