هو الإمام محمد عبده «1849/ 1905» المولود فى محافظة البحيرة بقرية محلة نصر بمركز شبراخيت، هو ذلك المناضل الذى عاش حياته يدافع عن القيم الإسلامية النبيلة منتصراً للشعوب العربية والإسلامية، مدافعاً عن ثوراتها، وقائداً لنهضتها، ومحارباً من أجل إعلاء كلمة دينها وارتفاع قامتها فى دنياها، حيث رافق الإمام جمال الدين الأفغانى فى دعوته إلى توحيد كلمة المسلمين وجاهد معه فى السراء والضراء، وحينما أتت الثورة العرابية انضم إليها مدافعاً عنها مكتويا بنارها، وصار من قادتها، ليذوق بعد انتهاء الثورة مرارة النفى وقسوة السجن بعدما تجرع آلام الهزيمة، وأثناء منفاه يدعوه أستاذه جمال الدين الأفغانى إلى السفر إلى باريس ليؤسسا جريدة «العروة الوثقى» التى تبنت منهجاً إصلاحياً ثورياً إسلاميا يدافع عن العقيدة والشريعة ويرد اتهامات المستشرقين، واستمر الإمام فى نهجه الإصلاحى حتى تدرج فى المناصب، ووصل إلى منصب مفتى الجمهورية وقد كان أول شاغل لهذا المنصب الرفيع، بعد أن كان قديماً ملحقاً بمشيخة الأزهر، ولأن الإمام كان يعرف أنه إمام أمة فقد تبنى منهجاً إصلاحياً جدد به شباب الإسلام ظهر فى كتبه وفتاواه، فجذب حوله التلامذة من مختلف التخصصات.
نظر الإمام إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية، فأيقن من أن الركود والجمود الضاربين فى جسد الأمة العربية بسبب ابتعاد الناس عن روح الإسلام التى أنارت العالم وأضافت إليه وجددته وطورت معارفه، ولما تأمل الإمام الفرق بين زمنه وزمن الحضارة الإسلامية وجده يكمن فى أن زمن الحضارة كان يحتضن عشرات الأئمة المجددين، أما زمنه فليس به إلا المقلدون التابعون المزيفون الذين اختصروا الدين فى بعض الشكليات التى لا تنفع وتفيد، ولذلك كان من أوائل الداعين إلى فتح باب الاجتهاد، الذى كان إغلاقه سبباً من أسباب أزمة المجتمع الإسلامى وجمود الفكر، وانصراف الكثير عن الأخذ بأحكام الشريعة، كما دعا إلى قراءة النصوص الدينية فى ضوء المتغيرات الحديثة، واضعاً مصالح الأمة فوق كل اعتبار دون الخروج عن ثوابتها القطعية، متبنياً نظرية مقاصد الشريعة التى تبلورت على يد الإمام الغزالى والعز بن عبدالسلام والإمام الشاطبى، وفى ذلك يقول الإمام محمد عبده: إن الدين أنزل لمصلحة الناس وغيرهم، وأن من أصوله منع الضرر والضرار.
اعتمد الإمام على عقله الذى يعرف المصالح من المفاسد دون أن يجور على شريعة الله ولا منهجه الذى أضاء العلم، وهو فى ذلك يقول: «إن الإسلام يقاضينا إلى العقل، ومن قاضاك إلى حاكم فقد أذعن لسلطته، فكيف يمكنه بعد ذلك أن يجور أو يثور عليه؟»، ومعنى هذا أن الإسلام خاطب العقل فى الإنسان، وأن سبب دخول الناس إليه هو الاقتناع العقلى، وسبب التزام الناس بتعاليمه هو اقتناعهم العقلى فكيف بالإسلام وهو الذى ارتضى أن يكون العقل حاكما أن يلغيه أو يهمشه؟ وهو أيضاً صاحب المقولة الشهيرة: «إذا تعارض العقل وظاهر الشرع أخذنا بما دل عليه العقل»، متفقاً فى ذلك مع الإمام الغزالى الذى قال: «إن لنا معياراً فى التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك»، بما يعنى أنه إذا وجدنا نصاً من نصوص الشرع، لا يتفق معناه الظاهر مع حكم العقل، علمنا أنه لا بد من أن يكون لذلك النص معنى غير معناه الظاهر، ووجب علينا أن نحاول تأويله تأويلا يخرج منه المعنى المقبول عقلاً.