بعد أيام قليلة تحل الذكرى السنوية الثامنة والعشرين، لرحيل الملحن الكبير محمود الشريف الذى يعد واحدا من أهم أصحاب الروائع الموسيقية فى تاريخ مصر الغنائى، وللأسف لم يتصدر «الشريف» الساحة الإعلامية لأسباب لا أعلمها، برغم أنه لم يرحل مبكرا مثل كثيرين ولم يصادف سوء حظ مثل كثيرين أيضا، لكنك لا تستطيع أن تتجاهل أعماله التى لا يفصل بينها وبين قلبك فاصل.
أعمال كثيرة تألق بها «محمود الشريف» وتألقت به، ويكفى أن صاحب تلك البصمة العبقرية لشهر رمضان المبارك «رمضان جانا» ويكفى أيضا أنه صاحب أروع أغانى محمد قنديل «تلات سلامات»، كما أنه صاحب «البيض الأمارة» و«ع الحلوة والمرة» لعبد الغنى السيد و«ودع هواك» لعبد المطلب، وغيرها من أغنيات عظيمة خلدت فى وجدان الجميع، وأصبحت من علامات الشعور المصرى، غير أننى هنا أريد أن ألفت انتباهك إلى تلك الأغنية الساحرة التى شدت بها «شادية» فى فيلم موعد مع الحياة الذى أنتجته وقامت ببطولته «فاتن حمامة»، وفى الحقيقية فقد جنت سيدة الشاشة العربية على هذه الأغنية الجميلة دون أن تقصد وأسهمت فى تشتيت الانتباه بعيدا عنها لاستخدامها فى السياق الدرامى من ناحية، ومقاطعتها بجمل صارت من أشهر الجمل فى تاريخ السينما.
يقول أحدهم لفاتن حمامة: امسحى دموعك يا آمال، فترد آمال: لا دى مش دموع دى من السيجارة، فيرد: طب خدى بالك من السيجارة عشان دى خلصت خلاص، فترد فاتن حمامة متحسرة: خلصت خلاص».
بهذا الحوار قطعت فاتن حمامة أغنية «ليالى العمر معدودة» لشادية، وهى من وجهة نظرى من أعظم أغنيات شادية على الإطلاق، ففيها ما لا يوجد فى الكثير من أغنياتها التى حازت شهرة مدوية، ومن خلال هذه الأغنية استعرض «محمود الشريف» بألحانه الكثير من مهاراته اللحنية بداية من الإيقاع الغربى وحتى الغوص فى أعمق المقامات الشرقية، أغنية لا تكرر نفسها، ولا تكتفى بالوصول إلى حالة إشباع موسيقى من مشرب واحد، بل تتنافس «كوبليهاتها» فيما بينها فيما يشبه المزايدة المستعرة، ليتصاعد الشجن مع تصاعد الحالة الدرامية الراقية التى صاغها الشاعر الغنائى المعجز «فتحى قورة» بداية من ليالى العمر معدودة، مرورا بـ«صحيح الدنيا دى خاينة، ثم «بيعوها يا اللى شاريينها»، وحتى نقدر والقدر يضحك ونضحك والزمن ساخر، وبتعجب على أمرك يا طالب عمر للآخر».
هنا تتدرج شادية فى التطريب مثلما تتدرج فى الانفعال وفق خطة وحكمة رسمها وصاغها ونفذها محمود الشريف الذى صهر فى تلك الأغنية جميع المشاعر الإنسانية المؤلمة من فراق وزهد وسخرية واستغناء، وفى اعتقادى أن فاتن حمامة جنت على هذه الأغنية مرتين، المرة الأولى التى طلبت فيها هذه الأغنية من شادية، وهى المريضة بمرض مزمن والمهددة بالموت فى أى وقت، فاكتفى السامعون بالمطلع ولم يتوغلوا فى بقية الأغنية، ومرة أخرى بمقاطعتها الكلمات والأداء الذى وظف الأغنية فى سياق الدراما، لكنه أيضا أبعد عنها الاهتمام بها كأغنية مستقلة.