"لم يعد بوسعنا الاعتماد بالكامل على البيت الأبيض".. تصريح أدلى به وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس، قبل أيام قليلة، ربما يعكس حجم الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها التقليديين فى أوروبا، خاصة بعد حالة الشقاق غير المسبوق فيما بينهم، والتى ثارت على مختلف الأصعدة سواء السياسية أو الأمنية أو الاقتصادية فى الآونة الأخيرة، والتى تجلت بوضوح سواء فى قمة الناتو الأخيرة أو قبل ذلك فى قمة مجموعة السبع التى عقدت فى كندا الشهر الماضى.
إلا أن التصريح الألمانى يحمل فى طياته اعترافا ضمنيا بصفقة أمريكية أوروبية دامت لعقود طويلة من الزمن تقوم فى الأساس على قيام أمريكا بواجبها نحو حلفائها الأوروبيين بتقديم الحماية الأمنية عبر الإلتزام العسكرى والمالى للناتو من جانب، وتقديم المزايا التجارية عبر الاتفاقات من جانب آخر، مقابل أن تحتفظ الولايات المتحدة بقيادة المعسكر الغربى باعتبارها القوى الدولية المهيمنة على الساحة الدولية، إلا أن مواقف إدارة ترامب ربما جاءت لتنتهك مثل هذه الصفقة غير المعلنة، لتبدأ مرحلة جديدة قد تشهد خريطة جديدة للقوى الدولية فى العالم.
الصدمة الأمريكية.. نقطة انطلاق أوروبا
من هنا تكمن نقطة الانطلاق لأوروبا لتغيير النهج القائم على الاعتماد على الدعم الأمريكى، هو الأمر الذى قد يساهم بصورة كبيرة فى استقلالية القرار الأوروبى، بعيدا عن سياسة التبعية التى انتهجتها أوروبا، تجاه العديد من القضايا الدولية فى المرحلة المقبلة، خاصة وأن المواقف الأمريكية التى تبنتها إدارة ترامب ربما تتعارض بصورة كبيرة مع المواقف الغربية الجماعية تجاه هذه القضايا، وهو ما يخلق فرصة جديدة لأوروبا للقيام بدور أكثر بروزا فى تلك القضايا وبالتالى توسيع نفوذها فى العديد من المناطق بالعالم.
فعلى الرغم من أن القرارات الأمريكية المتعارضة للمواقف الأوروبية، تجاه بعض القضايا الدولية التى لطالما شهدت إجماعا أمريكيا أوروبيا، كانت صادمة للجانب الأوروبى، وعلى رأسها القضية النووية الإيرانية وموقف مدينة القدس، بالإضافة إلى الموقف من قضية كوريا الشمالية وروسيا، إلا أنها فى واقع الأمر فتحت الباب أمام استقلالية القرار الأوروبى تجاه تلك القضايا، لحماية مصالحها فى المقام الأول، كما أنها وضعت اللبنة الأولى فى بناء النفوذ الأوروبى لتتحول أوروبا إلى قوى دولية جديدة يمكنها المشاركة بفاعلية فى قيادة العالم فى السنوات القادمة.
زيارة أوروبية لآسيا.. أوروبا تتحرك لمزاحمة النفوذ الأمريكى
ولعل الزيارة التى قام بها رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر ورئيس المجلس الأوروبى دونالد توسك إلى آسيا هذا الأسبوع، تمثل فى حقيقتها تحرك أوروبى مستقل لتقوية العلاقات بين القارة والقوى الآسيوية البارزة، وعلى رأسها الصين واليابان والتى توترت علاقتها بصورة كبيرة مع الإدارة الأمريكية فى الأشهر الماضية، على خلفية القرارات التجارية الأمريكية بالإضافة إلى التجاهل الذى أبداه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب للمخاوف اليابانية أثناء لقاءه مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون فى سنغافورة فى شهر يونيو الماضى.
الزيارة الأوروبية لآسيا تلامست بوضوح مع الجرح التجارى الذى تسببت فيه إدارة ترامب لكلا الطرفين، خاصة وأنها شهدت توقيع اتفاقات تاريخية للحفاظ على النظام التجارى القائم، وهو ما يمثل تعويضا، ولو جزئيا، عن الأضرار الاقتصادية التى تتكبدها كلا من القوى الأوروبية والآسيوية جراء التعريفات الجمركية التى فرضتها الإدارة الأمريكية على الواردات القادمة إليها من الخارج.
إلا أن القيمة الرمزية للزيارة تبدو أعمق من ذلك، خاصة وأن تزامنت مع تصريحات ترامب المثيرة للجدل، والتى وصف فيها أوروبا بـ"الخصم التجارى"، قبيل لقاءه مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حيث تعكس الزيارة أن أوروبا تحركت بمفردها ليس فقط نحو إيجاد بديل تجارى للشريك الأمريكى، وإنما أيضا لدحض الخطط والرؤى الأمريكية وبالتالى تقديم نفسها كبديل للقوى الأمريكية فى ضوء انكماش نفوذ الولايات المتحدة فى المنطقة على خلفية قلق حلفائها جراء التقارب الأمريكى الكورى الشمالى فى الآونة الأخيرة وما قد يترتب عليه من نتائج.
الحاجة للتقارب.. سياسات ترامب تخلق معسكر مناوئ لأمريكا
الحاجة للتقارب بين دول القارة الأوروبية ربما هى الحقيقة التى أكدها وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس، فى تصريحاته لصحيفة "فونكة" الألمانية هذا الأسبوع، حيث أكد أن السياسات الأمريكية أكدت أن هناك حاجة ملحة إلى للتقارب أكثر فى أوروبا.
إلا أن السياسات الأمريكية ربما سوف تساهم بصورة كبيرة فى خلق معسكر جديد مناوئ للولايات المتحدة، سوف تتقارب فيه أطراف دولية أخرى مع أوروبا، فى ظل حالة العزلة الراهنة التى تعيشها إدارة ترامب، بالإضافة إلى إدراك الأطراف الأخرى أهمية التعاون والمشاركة، وهو ما بدا واضحا فى الزيارة الأوروبية للصين والتى جاءت ربما لتكرس مرحلة جديدة فى العلاقات بعد سنوات من الانتقادات الأوروبية للصين على خلفية القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة