قال: كم تطول بنا أيام العمر؟!! قلت: أعتقد أن الأفضل أن نفكر: كيف نحيا أيام العمر؟! قال: ماذا تعنى؟! قلت: المشكلة، يا بُنى أنك ترى الحياة باعتبارها سنوات وأيامًا وساعات فقط، وفى الواقع هى ليست هٰكذا: إنها خَطوات وأعمال تنبُع من آمال وأحلام وأهداف ترسُمها لذاتك، إنها ما تتركه من أثر فى طريق أيامك، وما تخلّفه من بصمات تقول: كان يحيا هنا إنسان! عليك أن تهتم بما تفعله أو تريد أن تحققه، فذٰلك هو الاستثمار الحقيقى لدقائق حياتك وساعاتها، فالحياة ليست فى كثرة أيامها بل كيفية تمضيتها.
على سبيل المثال فى العُلوم، نقرأ عن عالم الفيزياء والرياضيات الإيطالى "تورشيلِّى" الذى مات فى التاسعة والثلاثين فقط ولكن بعد أن اخترع جهاز "الباروميتر" لقياس الضغط الجوى، وقام بعمل تعديلات على جهاز الميكروسكوب! وفى مجال الفن، نجد الرسام الهولندى "ڤان جوخّ" الذى يُعد أحد عباقرة الرسم فى التاريخ، تُوُفِّى فى السابعة والثلاثين، بعد أن ترك ما يزيد على ألفى لوحة!! وحاليًّا تقدّر لوحاته بملايين الدولارات!! وفى الشعر قدم الشاعر العربى "أبو القاسم الشابى"، الذى تُوُفِّى وهو فى العشرين، أروع القصائد ومنها قصيدة "إرادة الحياة" التى تبدأ بالبيت الشهير:
إِذَا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرَادَ الْحَيَاة فَلاَ بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ
لذٰلك، حياتك الموهوبة لك عليك أن تعيشها فى عمقها ومعناها الحقيقىّ.
أجابنى: كيف يمكننى هٰذا، وأنت ترى الصعوبات والأمواج التى تتلاطم فى العالم محاولةً أن تجذب إلى القاع وتسرق الأحلام وتستنفد القوى والطاقات؟!! بعد لحظات صمت، أجبته: أتعتقد أن حياة العظماء كانت تمضى بهم فى يسر ورفاهية؟! عليك بالعودة إلى التاريخ وقراءة وقائعه، واستلهام معانيه ودروسه، فلا عمل عظيمًا ارتفع إلا وهو محمول على أكتاف عرَفت معنى التعب والكد والعمل المتواصل الذى لا يتسرب إليه اليأس أمام التحديات والعقبات، أمّا ما يُبنى بغير أساس، فمصيره الاندثار لا محالة.
رد: أما ترى أنه أمر صعب؟! إن كثيرًا من البشر لا يسيرون بقاعدتك هٰذه!! أجبت: من المؤكد أنه أمر صعب، لٰكنه ليس مستحيلاً، أنت تعلم جيدًا أن النجاح يُبنى بالاجتهاد، وكثيرا ما يُعوزه جَهد وصبر؛ أمّا من لا يسير وَفق ذٰلك، فلن يعيش إلا أحلامًا سَرعان ما تزول، إلا أن أحد أسرار الحياة وما يحمّل الإنسان على التعب والصبر والعمل يكمن فى أعماق المرء نفسه، نعم: فما أروع أن نسير الحياة ونحن نحمل فى أعماقنا ذٰلك الكَنز العظيم الذى يسمى الثقة! هٰذه الثقة التى حين تُفقد تتخبط الخُطوات فى دروب الحياة، ولا تُستوعب معالم الطريق وإشاراته؛ فيضل كثيرون عن سَواء السبيل.
تساءل فى عجب: أية ثقة تلك التى تقصد؟! ثقة بمن؟! أو بمَ؟! أجبته: تمهل قليلاً! فللحديث بقية!
* الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة