رغم ما قد يعانيه التعليم الجامعى من مشكلات، ورغم مآخذنا على خريجى التعليم الجامعى منذ سنوات طويلة، ورغم حاجة الدولة إلى الأيدى الماهرة فى المهن الحرفية المختلفة، ورغم إسهام المهن الحرفية المختلفة فى بناء المجتمع بقدر قد لا يقل عن إسهام أصحاب التعليم العام وخريجى الجامعات وحملة الشهادات الجامعية والدرجات الجامعية المختلفة بحال من الأحوال، ورغم عدم قدرة المجتمع على الاستغناء عن أصحاب المهن الحرفية وأصحاب التعليم المتوسط ولا حتى عن العمالة البسيطة حتى هذه المرحلة من مسيرة الدولة، ورغم تدهور رواتب خريجى الجامعة وارتفاع تكلفة التعليم الجامعى الجيد بشكل مبالغ فيه، إلا أننا مازلنا نحتفى بالتعليم العام وبالثانوية العامة على وجه الخصوص بشكل مبالغ فيه، بل وغير مفهوم ولا داعى له أبدا، فحتى من يريد أن يدرس الطب، يستطيع أن يسافر إلى دولة أخرى، حيث يتاح التعليم جميعه بمقابل، ويدرس ما يشاء إذا استطاع مواكبة الدراسة وما إلى ذلك. وبالمثل فى بقية فروع العلم والدراسة. ويحدث بالفعل أن يصمم البعض على دراسة الطب أو الهندسة مثلا، مع إن الابن أو الابنة يستوعب المواد العلمية بصفة عامة بصعوبة ويحتاج إلى ساعات طويلة لمذاكرة ما يحتاج الطالب النبيه مذاكرته وفهمه وحفظه فى نصف ساعة أو ساعة بالكثير. والبعض يصمم على أن يلتحق ابنه بالهندسة، رغم أن الولد يكره الرياضيات ولا يطيق الفيزياء مثلا. لكن الأب أو الأم أو كلاهما يصممان على ما يريدان لابنهما أن يكون، وليس على ما يحب أو يتمنى الابن والابنة أن يكونا فى مستقبل حياتيهما. وتقمص الآباء لحياة أبنائهم جزء من المشكلة على المستوى العام، بحيث أصبحنا لا نحتاج فى الحقيقة الى مخاطبة الطالب، لكن نحتاج إلى مخاطبة الأهل لأنهم هم الكامنون وراء مشكلة الثانوية العامة ووراء تصاعد التوتر حولها وأمامها وإلى يسارها وإلى يمينها بلا داع حقيقى، وبلا سبب مفيد للمجتمع الذى يعايش هذه الظاهرة الغريبة التى لا مثيل لها فى المجتمعات الأخرى ولا معنى لها أيضا.
هل من الممكن أن ننسى الثانوية العامة؟ نعم لا معنى للضجة حول الثانوية العامة، لأن الدراسة والنجاح والحياة لا يتمون بالقوة ولا بالغصب، ولأن كلا ميسر لما هو أهل له. فلماذا نصر أن نحمل أبناءنا أكثر من طاقاتهم ونرغمهم على ما لا يحبون وعلى ما قد لا ينفعهم فى مستقبل أيامهم، وعلى ما قد لا يكون طريقا مبهجا فى حياتهم، بينما هم يتمتعون بقدرات أفضل فى مجالات مهنية أخرى؟ ولماذا يصر بعض الأهل على تعذيب أنفسهم وبذل أموالهم فى الدروس الخصوصية وفى ليال طوال بلا نهاية وبلا داع مقبول؟
هل سبق لأحد أن رأى عالما فى علم من العلوم أو مهندسا ناجحا أو طبيبا بارعا أو ضابطا مجدا أو شاعرا فصيحا أو كاتبا ألمعيا أجبر على السير فى مجال مهنته أو غصب على ممارسة تلك المهنة التى يعمل بها بعد تخرجه فى الجامعة؟! لا يوجد بالطبع من هو ناجح فى مهنة غصب عليها صغيرا أو كبيرا، ولو كان يحب أهله ويحب الدنيا. إذ كيف نغصب الناس على ما لا يطيقون ليكون رفيقهم مدى الحياة وليس ليوم أو شهر أو لسنة حتى؟ وهل يمكن لأحد أن يكون مغصوبا وناجحا طوال عمره؟ لا أظن أبدا ولا يمكن للغصب أن يكون معينا على النجاح. فوجود الغصب يعنى غياب الرضا، وانشغال البال بفك الأسر، وبمعالجة أحزان القلب، وبالحسرة على ما فات وما يمكن أن يفوت المرء وهو فى أصفاد الاكراه التى وضعت فى يدى اختياره ومشيئته الخاصة.
أن الدولة تنفق الكثير من الاهتمام بالتعليم العام ولا تظهر اهتماما مماثلا بالتعليم الفنى وبالتعليم الحرفى اللذين يحتاجان إلى اهتمام واسع وحقيقى، بينما تحتاج الدولة إلى ترشيد إنفاقها المادى على الثانوية العامة وإلى ترشيد اهتمامها بالثانوية العامة ليكون اهتماما انتقائيا لمن يستحقون علميا أن تهتم بهم الدولة لما قد يظهرون من قدرات وإمكانات واعدة. كما تحتاج الدولة إلى ترشيد الاهتمام بالثانوية العامة فى كل وسائل التخاطب، ليعلم الناس أن هناك وسائل أخرى وطرقا أخرى فى الحياة تستحق التقدير من المجتمع ويمكنها أن توفر مهنا جيدة ومربحة ومشرفة لأصحابها بما تقدم من خدمات حقيقية ومهمة إلى المجتمع. وتحتاج الدولة إلى ترشيد اهتمامها بالثانوية العامة، ليرشد الناس إنفاقهم عليها ويحتفظوا لأنفسهم بما يجعل حياتهم أكرم وأيسر ولا ينفقون ما لديهم ليفترشوا الأرض، من أجل أن يحصل الابن على الثانوية العامة أو يتخرج فى الجامعة، ثم يبقى فى أحضان أهله المقهورين لسنوات طويلة ريثما يجدون من يدفعون له المال ليوظف ابنهم، أو يجد المحروص وظيفة فى محل بعدما أنسته سنوات الانتظار فى المنزل ما قد يكون تعلمه من معارف صارت أيضا قديمة.
إن التقدم إلى مراحل الثانوية العامة يحتاج أيضا إلى أن يحاط باختبارات حقيقية لا مجاملة فيها، من أجل قياس قدرات الطالب بكل تقدير وبكل مودة وحب للأبناء جميعا، وبلا رعب ولا امتهان لأحد، بحيث يتم توجيه الطالب إلى المسار الدراسى الذى يناسب قدراته العلمية والاستيعابية ويلبى طموحاته ورغباته النفسية المحببة إليه. فليس من يحصل على 50% فى الدراسة الإعدادية بصالح للتوجه إلى الثانوية العامة بالطبع، إذ ما الهدف بالنسبة إليه إذا كان هذا هو مستوى تحصيله العلمى؟ بل إن التوجه إلى دراسة الثانوية العامة بعد الإعدادية قد يستلزم الحصول على نسبة 70% على الأقل ليكون الطالب فى المكان المناسب، ولا يحتاج إلى دروس خصوصية ترهق أهله، ولكى لا تكتظ الفصول بما يصلح ومن لا يصلح ولا تمتلئ الجامعة بالفاشلين الذين يحتاجون إلى إعادة تأهيل بعد التخرج ليجدون عملا يقتاتون منه. حفظ الله مصر دولة مدنية تتساوى فيها الحقوق والواجبات، وحفظ رئيسها ووفقه إلى الخير كله.