تجاوز السبعين من عمره ولا يزال محافظا على رسالته كمعلم أجيال وفاعلا فى مجتمعه متشبثا بمهمته "إنارة العقول"، صغيرا قاوم الجهل فى قريته وانتصر حتى تشرب مبادئ القراءة والكتابة جامعا الحروف من هنا وهناك، والتحق دارسا بفصول دراسية تبعد عن قريته 20 كيلو مترا يسير إليها مشيا على الأقدام وهو دون سن العاشرة، حالت ظروف الحروب فى سيناء فى منتصف القرن الماضى دون إتمام تعليمه، ولم تهزم إرادته فى تحويل ما حصل عليه من علم لمصدر طاقة محو جهل وامية الأطفال فى قريته وقرى مجاورة، وأصبح معلما يقطع مشيا على الأقدام عشرات الكيلو مترات يوميا ذهابا وإيابا لأقرب مدرسة متطوعا يعلم الدارسين فيها مبادئ القراءة والكتابة.. حتى لاحت له فرصة استئناف دراسته وحصوله على شهادة دبلوم معلمين، ومن ثم تقلده رسميا منصب معلم، وبعد إحالته للمعاش لم يستسلم وقرر مواصلة التحدى رغم تقدم العمر ووهن الجسد وعاد من حيث بدأ قبل قبل نصف قرن، يجمع حوله الأطفال عصر كل يوم ويلقنهم مبادئ القراءة والكتابة ويزرع فى قلوبهم البريئة حب العلم والوطن فى درس يومى خلاله يفترشون الأرض حوله ممسكين بأوراقهم وأقلامهم مرددين فى صوت تردده من خلفهم الصحراء صداه (أ ب ت ث..)، وفى الصباح مبكرا ينشغل بتدريبات مكثفة لشباب وسيدات من 15 أسرة على أعمال حرفية تنتج مشغولات تحقق لهم دخلا يحسن أحوالهم المعيشية.
الأستاذ سلامة سليمان أبو عليان، الذى يفتخر أنه صاحب رسالة وأمانة كما يفتخر به جيل كامل من أبناء قرى جنوب رفح والشيخ زويد أنهم تعلموا على يديه، حتى أصبح من بينهم أطباء ومهندسين ومعلمين وقيادات فى مناصب إدارية مرموقة.
تجربة حافلة بالمبهر فى تحدى كل صعب كما وصفها "الأستاذ" فى حديثه لـ"اليوم السابع" من حيث يقيم مؤقتا فى نطاق مدينة بئر العبد، بعد أن انتقل من قريته "نجع شيبانة" جنوب رفح، قبل نحو عام بسبب ظروف الحرب على الإرهاب.
الحج سلامة وهو الاسم الذى يناديه به من حوله وغالبيتهم من تلاميذه، يقول إنه ولد فى عام 1948، لأسرة بسيطة من عائلة العلاوين عشيرة المنصوريين إحدى عشائر قبيلة السواركة.
بدون أم
وتابع قائلا، " كانت اسرتى بسيطة الحال كباقى الناس فى بادية سيناء، وكل معيشتهم تعتمد على رعى الأغنام والتنقل وراء الكلأ من مكان لآخر وبالكاد يوفرون قوت يومهم، وكانت أولى التحديات، مواجهة الحياة بدون أم حيث توفيت الوالده رحمها الله وأنا فى الرابعة من عمرى، ليصطحبنى الوالد فى معترك حياة جديد، وهو التنقل بحثا عن الرزق على ظهور الإبل فى محافظات مصر المختلفة، حيث غيطان الريف وتوفر الخضرة".
بداية العلم
اضاف أن رحلته مع والده بحثا عن قوت يومهم، استمرت 8 سنوات متواصلة، انتهت عام 1956 بعودتهم لقريتهم "نجع شيبانه "، جنوب رفح، وتتغير الظروف بتعرض سيناء لحرب 1956م، وهى الحرب التى اعادت لقريتهم أحد أبنائها الذاهبين للعلم فى مدارس المدينة وهو "الأستاذ على ابوزريق"، الذى حصل على قدر من التعليم اتاح له أن يجمع حوله الأطفال والشباب ويعلمهم القراءة والكتابة، وحرص شديد من والده أن ان يكون احد المتعلمين بتلقينه مبادئ الحروف.
واستطرد أن لوالده مع التعليم قصة عجيبة، حيث استطاع تعلم الحروف الهجائية عن طريق زميل له عندما كانوا يعملون فى فرد " بولاك " الأسفلت تحت المعدات على الطرق، وعلمه بطريقه طريفه فى تعليمه، يذكر له أسماء المكونات من حوله من طيور وشجر وأفعال ويجزئ له حروفها ويطالبه بنطقها وهكذا حتى أجاد القراءة والكتابة.
وتابع المعلم الوفى لمهنته وأمانة رسالته، أنه على يد ابن قريتهم اجتاز وعشرات آخرين من أبناء منطقة محيطها 40 كم حولهم حلقات علم كان فيها استاذهم هو معلمهم فى كل المواد يوميا بسلسلة دروس علم، كما كان هو من يلقى خطبة الجمعة فى المسجد ويؤم الناس فى كل صلاة، وهى بداية التنوير الحقيقى لمناطقهم، ساعده على ذلك بدء انتشار الزوايا الصوفية، التى شجعه شيوخها على نشر العلم فى كل الزوايا وجمع الأطفال والشباب للتعليم.
وتابع قائلا أن التعليم فى الكتاتيب كان اجتهادا وليس رسميا وبعد الإجادة بحث عن مدرسة ليلتحق بها وكان تجاوز الثامنة من عمره، واقرب مدرسة هى فى مدينة الشيخ زويد التى تبعد عن قريتهم نحو 20 كيلو مترا، لم يتوقف طويلا أمام طول مسافتها وصعوبتها على بنيانه الضعيف ووعورة شق الطريق إليها فكان أحد الدارسين فيها.
معلم فى قريته
ووصف الأستاذ " سلامة ابو عليان " حالهم خلال هذه الفترة بقوله، إنهم كانوا لا يزالون فى وضع معيشى صعب والدهم يسعى لكسب قوت يومه، وشقيقه متكفل بمهام احضار الماء على ظهور الإبل من مسافات بعيدة يوميا، ويسكنون العشش صيفا وبيوت الشعر شتاء، ومع ذلك كانت تعليمات والده صارمة وهو أن يتاح له التعليم ولا يشغل نفسه بأى شىء آخر.
وقال أنه انهى دراسته الابتدائية فى مدرسة الشيخ زويد، ثم انتقل الاعدادية فى رفح وقبل انتهائها، حدث مالم يكن فى الحسبان، حيث وقعت حرب 1967، وأصبحت المنطقة خرابا، وفر هو لأسرته فى قريتهم بينما من كان معه من زملاء له استطاعوا تسوية أمورهم والانتقال لاستكمال تعليمهم فى محافظات أخرى.
وأشار أن فراره وتوقف تعليمه لم يثنى عزيمته، فقد شاء القدر أن معلمهم ابن القرية الواقع على عاتقه مهام تعليم وتنوير ابنائها، التحق بالخدمة العسكرية، ومن هنا اصبح هو المتعلم الوحيد فى القرية وكان ابن التاسعة عشر من عمره، ولم يتردد فى التشمير عن ساعديه وبدء العمل فى التعليم بفتح فصول كتاتيب فى قريته وفى قرية الجورة المجاورة لهم بمساعدة زملاء له.
وقال إنهم خلال هذه الفترة عملهم تطوعى، يجمعون الأطفال من أولاد بنات، ويعلمونهم كل مبادئ القراءة والكتابة ونصوص ادبية، ثم يقوم بإعطاء الطالب خطاب موجه لأقرب مدرسة فى المدينة ليذهب اليها ويتقدم فيها فى الصف الخامس ليجتاز الشهادة الابتدائية رسميا، حيث كانت الظروف غير معقدة إداريا وتساهم فى ذلك.
أول مدرسة
اضاف أن أول مدرسة رسمية فتحت فى مناطقهم كانت الفارابى فى قرية الجورة فى منتصف السبعينيات، والتحق للعمل فيها متطوعا لمدة قاربت 10 سنوات، وكان يوميا يصطحب تلاميذه من قريتهم ويقطعون سويا المسافة من قرية نجع شيبانة حتى الجورة لمسافة تقترب من 14 كم ذهابا وإيابا حتى اتيحت له فرصة استكمال تعليمه إلى جانب عمله مدرسا حتى انهى المرحلة الثانوية، ومن ثم فى عام 1982 التحق بدبلوم معلمين وحصل على الشهادة وعين رسميا معلم.
موظف رسمى
ومن جديد بدأ حياة وظيفية رسمية استمرت نحو 30 عاما، خلالها عمل على اقامة مدارس من كافة المراحل التعليمية والازهرية فى قريتهم، إلى جانب عمله فى مدرسة القرية، التى تدرج فيها حتى تولى قيادتها لحين إحالته للمعاش قبل 10 سنوات.
وأشار لأنه خلال عمله فى مدرسته اكتشف خلل وهو ضعف مستوى الطلبة فى ما بعد الصف الثالث، ليكتشف خلل فى تعليمهم فى الصف الاول ومن هنا قرر أنه يتولى مسئولية تدريس الصف الأول حتى الثالث. وتابع قائلا أنه كان خلال هذه الفترة كلما يعرف أنه يوجد طفل تحول ظروفهم دون تعليمه يذهب لأسرته ويحثهم على الحاقه بالمدرسة ويتطوع هو بتعليمه، بينهم قيادات كبيرة الآن وحاصلين على مؤهلات علمية رفيعة المستوى.
بعد المعاش
وقال إنه بعد إحالته للمعاش وجد ضالته فى أداء رسالته مجددا، وتنفيذ وصية والده وهو أنه كما "تعلم مجانا يُعلم مجانا"، بفتح فصول كتاتيب من جديد ويلحق بتعليم أطفال صغار مبادئ وأساسيات القراءة والكتابة يلتحقوا بمدارسهم متعلمين، ونجح فى ذلك واصبحت فصوله الجديدة تجذب اليها الصغار من كل المناطق حوله، ولكن شاءت الظروف أن تتعرض قريتهم لمحنة الأحداث التى تشهدها سيناء فى الوقت الجارى، وينتقلون جميعهم بحثا عن الأمان فى منطقة قريبة من مدينة بئر العبد، وفيها ايضا لم يموت أو يقتل حلمه أو يستسلم كما يقول، فقد قرر من جديد استئناف تعليم الصغار يجمعهم حوله فى المجلس يجلس هو على كرسى أو متكئا على مسند والصغار حوله على الأرض يرددون من وراءه الحروف والأرقام والأناشيد والأغانى الخفيفة وسور القرأن الكريم القصيرة، ويوميا يخرجون بجرعة تعليمية بشكل مختلف.
لا استسلام
وكشف المعلم الوفى، أنه وهو فى هذه السن كما لم يستسلم لما يسمونه " ركنة المعاش"، وعاد لأحياء حرف كان يهواها صغيرا ويحولها لمصدر دخل له، بينها حرفة تصنيع مشغولات مختلفة من الخرز الزجاجى، وصناعة مشغولات من سعف النخيل، حتى أن إحدى الجمعيات تعاقدت معه كمدرب معتمد لها على تصنيع هذه المشغولات وخصص مكان فى بيته الجديد للتدريب يستقبل فيه المتدربين وينتقل للتدريب فى اماكن اخرى، ويفتخر أنه تحت يديه يتم تدريب 15 اسرة على تصنيع مشغولات تحقق دخل لهم.
وأشار لأنه يؤمن أن رسالة المعلم عظيمة فهو معلم لكل جديد فى الحرف والإبداع. وقال أنه ينصح كل معلم أن يعتبر الطفل الصغير ابنه، محذرا من تسرع المعلم فى فرض العقوبة فالطفل يأتى عجينة والمعلم هو اول من يشكلها ويكتشف منابت التميز والإبداع فى الطفل ويوجهه لوجهه الصحيح.
إنقاذ التعليم
وقال إن التعليم فى شمال سيناء ليس مسئولا عن خروج أفكار سامة وفشل أجيال فى التعلم فى القرى، ولكن تطبيقه الخاطئ كان وراء ذلك لافتا أن المنهج الذى يطبق فى القاهرة هو الذى يطبق فى قلب الصحراء والطالب فى الأول الابتدائى الذى يصل مدارس المدينة وقد اجتاز سنوات تعلم وحضانة هو ما يطبق فى قرى يصل الطفل فيها للمدرسة وهو لايعرف شيئا عن العلم ومن هنا الكارثة، فضلا عن أن الطالب وهو طفل يفاجئ بوجود مدرس لايعرف لهجته ويصطدم بحروف ومصطلحات فوق قدرته فى الفهم وينطوى ويكون مصيره الفشل فعليا رغم أنه ينجح على الورق ويستمر الحال لحين انتهاء المرحلة الابتدائية وقد يتسرب من التعليم أو قد يقاوم ويلتحق بتعليم متوسط كلنا نعلم الية النجاح فيه وقليل هم من يجتازون هذا المعترك.
وقال إننى أنبه من خطورة ذلك وأطالب بنظام تعليمى يراعى ظروف المناطق النائية والصحراوية لافتا أنه كان شاهد عيان على مجموعة اطفال لم ينالوا حظهم من التعليم فى مناطقهم فى الصغر نتيجة بعض من هذه العوامل لنفاجئ بهم فى سنوات اخيره انهم من المنحرفين فكريا وسلوكيا فى المجتمع والمجتمع ذاته يدفع فاتورة ذلك.
وأشار لضرورة أن يكون فى مدارس القرى معلم من أبناء كل قرية هو اول من يستقبل التلاميذ ويعلمهم حتى الفصل الثالث الابتدائى، وقال انى لا احمل ولى الأمر مسئولية فشل الطالب، ففشل الطالب هو فشل للمعلم والمدرسة والادارة التعليمية فهم إذا ما انشغلوا عن العملية التعليمية باضافات قد تكون مستحيلة ولكنها ليست كل شئ أو انشغلوا بمصالحهم والدروس الخصوصية وغيرها فهم يحملون ولى الأمر المسئولية، بدليل اننا تعلمنا فى اماكن وعلى يد أشخاص وكان دور أسرنا مراقبه عن بعد وليس تدخل، وكنا ننجح لأن المعلم فى موقعة حازم وصارم ويريد أن يعلم ولا يرضى ابدا بنتيجة محدودة.
وأعرب مربى الأجيال سلامة أبوعليان عن أمنيته أن تتاح له فرصة عرض ورقة أو روشتة لآلية نجاح التعليم فى مدارس قرى شمال سيناء أمام صانع القرار ليعمل بها وسيرون كم هى النتيجة مبهرة. وأكد أن يعتبر أن رسالته واجب فى عنقه لا ينتظر عليها تكريم أو تقدير، وتكريمه وتقديره يسعد به كلما سار فى درب أو وصل لمكان ووجد من بين القائمين عليه احد تلاميذه عندها يشعر بالارتياح وأنه أدى أمانته.
الأستاذ سلامة أبوعليان
يتحدث لمحرر اليوم السابع
مع الأطفال
فصله التعليمى
معلما بعد الكبر
فى أحد دروسه
تلاميذه
مع الأطفال
التلاميذ
لا يستسلم لكبر السن
فى مجلسهم الجديد
فى مكانه
الأستاذ سلامة
عمر حافل بالعطاء
الأستاذ سلامة
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة