منذ ما يقرب من 20 عاما وأنا أعمل محررا ثقافيا، ومن قبل هذا التاريخ كانت علاقتى بالأدب والفن ممتدة عن طريق انشغالى بهما من باب الشعر الملكى، ومن خلال هذه الخبرة الطويلة أصبحت أكثر شفقة على الوضع الثقافى المصرى، بعدما كنت أكثر نقمة، كنت ناقما على كل الإهمال، كل التسيب، كل المحسوبية، كل المغالاة، كل العشوائية، كل التفريط، كل التضييع، كل السلفية المحنطة، وكل الحداثة المعطوبة.
الآن أصبحت كما ذكرت أكثر إشفاقا على الوضع الثقافى المصرى، وأكثر إشفاقا على وزارة الثقافة التى تواجه بكم هائل من التجريف، وكم هائل من الإهمال، ولا أستطيع هنا أن أوجه أصابع الاتهام إلى أحد بعينه، فالبيروقراطية أكلت الحماس، والروتين قتل الإبداع، وضعف الإمكانيات شل الطموح، لكنى أيضا لا أستطيع أن أتجاهل أن يتم الكشف عن كارثة ولا يتحرك أحد.
الكارثة هنا كشفتها «اليوم السابع» فى تحقيق كتبته الزميلة بسنت جميل، ويكشف التحقيق أن لوحة من لوحات متحف الفن الحديث سافرت إلى قطر واحتفظ بها متحف الفن العربى بالدوحة، ووضعها على موقعه الإلكترونى، فقد كشف التحقيق المدعوم بالوثائق أن لوحة «قبرص بعد العاصفة» للفنان الرائد محمود سعيد والمملوكة لمتحف الفن الحديث أعيرت لمعرض «مونتفيدو»، بأوروجواى، فى 1960، وكان معها عدد من اللوحات، وقت أن كان مصطفى عبدالرحمن مدير متحف الفن الحديث، ثم انتقلت هذه اللوحة إلى البعثة الدبلوماسية المصرية فى نيويورك، وفى 2013 ظهرت فى القاهرة فى أحد الجاليريهات، ونشرت «اليوم السابع» صورة ضوئية تثبت وجودها فى هذا الجاليرى، وللأسف هذه كانت آخر مرة تشاهد هذه اللوحة فى القاهرة، لأنها بعد ذلك سافرت إلى قطر، وبالتحديد فى قاعات المتحف العربى للفن الحديث.
وقد ذكر التحقيق أن اسم اللوحة بالفرنسية التى كان سعيد يتقنها هو Chypre après l’orage، ألوان زيتية، مقاس 73 x 86 سم، أبدعها محمود سعيد فى 1943، كما يذكر جدول إعارات مقتنيات متحف الفن المصرى الحديث الخاص بأعمال الفنان محمود سعيد، مما يثبت أن تلك اللوحة مملوكة للدولة، وتحت الإشراف المباشر والسيطرة الكاملة لقطاع الفنون التشكيلية «الإدارة العامة للمتاحف الفنية»، التابع لوزارة الثقافة، وموثّقة بالسجل تحت رقم 1297، رقم المخزن 2، اسم الفنان: محمود سعيد، خامة العمل: زيت، زمن الاقتناء: 1960، «إعارة خارجية»، جهة الإعارة: معرض «مونتفيدو»، أمريكا الجنوبية، ومنه إلى بعثة مصر بنيويورك، تاريخ 17/6/1960.
وقد تأكد وجود هذه اللوحة فى قطر حينما قام الدكتور حسام رشوان والباحثة الفرنسية فاليرى هيس بعمل كتالوج مسبب لمحمود سعيد، فذكر متحف الفن العربى بقطر أن هذه اللوحة من ممتلكاته، وهو ما يدل على أنها سرقت بطريقة أو بأخرى وتم بيعها لقطر التى عرضتها ضمن مقتنياتها بلا خجل أو خشية، وفى الحقيقة فإن اكتشاف هذه الكوارث لا تستجلب الشفقة التى ذكرتها فى بداية المقال، وإنما تستوجب النقمة، لكنى مع هذا كلى ثقة بأن الدكتورة إيناس عبدالدايم، وزيرة الثقافة، لن تتوانى عن بذل كل الجهود لإعادة هذه اللوحة والبحث عن جميع لوحات مصر المفقودة التى تقدر بعشرات الملايين من الدولارات.