أجمل ما فى المجتمع المصرى أنه يكذب بلطف، ويخدع بوداعة، ويرسم بمهارة لواقعه صورا معكوسة، ولكنه للأسف حينما يحفر ليلقى فى باطن الأرض ما يريد إخفاءه لا يحفر بحرص ولا يردم على ما يلقيه بدقة.
راجع معى حرب البكاء المضادة بين الأطراف المختلفة بسبب المرأة وستكتشف أصل الكذبة، على يمينك يبكى الشيوخ على وضع المرأة المصرية التى أغواها الغرب والعلمانيون، وعلى اليسار يبكى أهل التيار المدنى والنخبة المثقفة على حال المرأة المصرية التى يريد الشيوخ تغليفها وتعبئتها وتخزينها فى المنزل، لأنها فتنة وصوتها عورة، وفى صدارة المشهد يقف أهل الأحزاب والمنظمات الحقوقية هاتفين بحرية المرأة وتمكينها منتقدين تقصير الدولة فى حقها، بينما الدولة تفتح مناصبها للمزيد من قيادات المرأة فى نفس الوقت التى تفتقد المناصب القيادية فى الأحزاب والمنظمات إلى تمثيل نسائى حقيقى، وعلى بعد خطوات على شواطئ الساحل والمصايف المختلفة يتحول المتباكون على حرية المرأة إلى ساخرين من سيدات مصر اللاتى يرتدين المايوه الشرعى، ليشكل المشهد بأكمله واحدة من أكثر اللوحات الفنية عبثا تتوسطها سيدة تتنازعها أيادٍ مختلفة.
منذ سنوات انتفضت مصر كلها بنخبتها ومثقفيها ضد قرار عمومية مجلس الدولة الذى رفض تعيين المرأة قاضية، وكتب الكاتبون وصرخ المثقفون عن مصر التى ترجع إلى الخلف، والمساواة التى ضاعت، والمرأة التى تم اضطهادها.
ثم عاد الجميع للصمت، لأننا نعيش فى مجتمع أدمن ذكوريته حتى لو سعى لتجميل وجهه بالكثير من الاستثناءات والعديد من التصريحات وبعض القرارات المناصرة للمرأة، الصحافة التى دائما ما تكون الأعلى صوتا فى الدفاع عن حق المرأة والمساواة وعدم التمييز، تأمل هيكلها التحريرى والإدارى يكشف لك تردى وضع المرأة بها، دعك من وجود قيادة نسائية أو اثنتين أو ثلاث يتم تعيينهن على استحياء كرؤساء لأقسام غالبا ما تكون خاصة بالمرأة والطبيخ والديكور، ودعك من فكرة أن المؤسسات الصحفية القومية تخصص إصدارا أو اثنين من الإصدارات الجانبية لتقودهما امرأة، دعك من كل هذا لأنه يدخل تحت بند الاستثناء أو بند العادة التى جرت بتعيين امرأة أو اثنتين بجانب مسيحى أو ثلاثة على هامش المواقع القيادية فى المؤسسات الصحفية حتى تكون صورة مصر حلوة.
دعك من كل هذا وانظر إلى المواقع القيادية لتكتشف أن الصحف القومية لم يرأس تحريرها امرأة، رغم أن الصحافة المصرية من عقود حظيت بتجربة مشرفة للأستاذة أمينة السعيد والأستاذة سهير القلماوى، ورغم أن كاتبة صحفية مثل الأستاذة سناء البيسى التى قادت مجلة نصف الدنيا إلى حيث النجاح والشهرة ومواقع التأثير تستحق أن تكون على رأس مؤسسة الأهرام ورئيسة لتحرير إصدارها اليومى أو رئيسة لتحرير الأخبار والجمهورية وروزاليوسف، فهى تملك قلم كاتبة أشهر بكثير من رؤساء تحرير تلك الصحف لدى القراء، ولها تجربة إدارة فى «نصف الدنيا» أنتجت من خلالها صحافة متميزة وصحفيين مبدعين أفضل مما يفعله رؤساء تحرير صحف الحكومة الآن.
الأحزاب التى تتكلم كثيرا عن تمكين المرأة تخلو هياكلها القيادية من تمثيل نسائى حقيقى، ومع ذلك تمارس لعبة الإتجار بالمرأة المصرية، بينما هذه الأحزاب مهزومة أمام مؤسسات الدولة التى تنتقدها بعدما شهدت السنوات الأخيرة تطورا حقيقيا فى مدى إيمان الدولة المصرية بتحويل تمكين المرأة ووجودها فى المناصب القيادية من مجرد التمثيل المشرف إلى الواقع الحقيقى الملموس الآن بعدد نائبات أكبر فى مجلس النواب، وزيادة مساحة وجود المرأة فى الحكومة المصرية بتمثيل وصل إلى 8 وزيرات وعشرات من المساعدات للوزراء، بعد أن قضينا سنوات كثيرة معتادين على وجود إمرأة أو اثنتين فى بعض الوزارات اللطيفة، كما جرت العادة منذ سبتمبر 1962 تاريخ تعيين السيدة حكمت أبوزيد وزيرة للشؤون الاجتماعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة