ونحن نتحدث عن المنظومة الصحية، والاتجاه لتطبيق التأمين الصحى الشامل، الأمر يستحق البحث والنقاش، للوصول إلى أفضل صيغة تقدم خدماتها للمرضى.
ومع أهمية التمويل والموازنة، هناك عناصر تسبق فى أهميتها المال، التمويل يمكن توفيره، ويتضمن قانون التأمين الصحى الشامل أبوابا كثيرة يمكن أن توفر تمويلا مناسبا وكافيا. لكن هناك العنصر البشرى والإنسانى وهو الذى يبدو أنه يغيب فى منظومة الطب الحالية. خاصة أن الأطباء الكبار غالبًا غير متفرغين، يتنقلون من مستشفى لآخر، ومن عيادة لأخرى، ويبدو المريض فى آخر قائمة الاهتمامات.
لا يوجد نظام تفرغ يضمن وجود الطبيب فى مكانه ومستشفاه وهو نظام غير موجود فى أى مكان بالعالم، ومعروف أن تراخيص مزاولة المهنة فى الدول التى تحقق أنظمة طبية محترمة تصدر بتحديد المكان المحدد الذى يعمل فيه الطبيب، ولا يوجد فى أى دولة متقدمة طبيب يتقافز بين المستشفيات، تاركا مرضاه يلهثون وراءه بحثا عن كلمة أو رأى.
لقد كنت شاهدا على تجربة كاشفة لأمراض الطب والعلاج، فى واحدة من أكبر مستشفيات مصر ـ عين شمس التخصصى ـ ظل المريض ينتظر أستاذ ورئيس قسم الصدر أو أستاذ ورئيس قسم الأورام ثلاثة أسابيع من دون أن يزوره أى منهما. ولم تجد التدخلات والتوصيات شيئا، الأطباء الكبار يتركون تلاميذهم المتدربين ويكتفون بتلقى التقارير على «الواتس آب»، وإن وجد الأستاذ وقتا، يراجعها بإهمال ويجيب عليها بملل والنتيجة مزيد من الآلام للمريض وأهله. وبعض كبار الأطباء تحولوا إلى أشباح تمارس طبا شبحيا وماكينات لجمع المال.
ومعروف أن التجارب الناجحة لمراكز ومستشفيات مثل مركز غنيم للكلى بالمنصورة، ومركز مجدى يعقوب للقلب بأسوان، و75357 لسرطان الأطفال، يقوم على التفرغ التام للأطباء والتمريض. والتى تمثل الأساس لأى نظام طبى، وهو النظام المعمول به فى العالم كله. لكن المستشفيات الكبرى خاصة وتخصصية لاتعمل به، لأنها تشارك الأطباء عملية جمع المال. وهى عملية تناقض قسم أبو قراط أو أبسط قواعد الإنسانية.
لقد كانت أهم توصيات مؤتمر الشباب الأخير هو اعتبار العام المقبل هو عام الصحة والعلاج، وتم البدء فى تطبيق التأمين الصحى الشامل فإن المنظومة الطبية بحاجة إلى تشريعات تحسم نظام العمل، وتوفر للأطباء أجرا عادلا وكافيا، مع ضمان التفرغ وإنهاء الفوضى الحالية التى تمثل واحدة من أخطر الثغرات التى تواجه الطب والعلاج وهو سلوكيات لاعلاقة لها بالطب، وترتبط بتحولات شهدها المجتمع وتحتاج إلى مراجعة ومواجهة.
ولا تتعلق الانتقادات التى توجه للطب فى مصر بالمستويات العلمية أو التكنولوجية، لكنها توجه إلى التعامل الإنسانى وإلى نظامالتمريض والطب.. وهى عناصر تختفى فى الكثير من المستشفيات الكبرى الخاصة والمتخصصة، والتى تفتقد إلى قواعد إنسانية أو اقتصادية واضحة.
لقد كان هناك نظام فى الماضى يمنح الطبيب بدل العيادة بقيمة كانت مناسبة وقتها وظل هذا البدل ثابتا بالرغم من التحولات الاقتصادية والأسعار، ويفترض أن يعاد النظر فى تطبيقه بشكل عادل. يضمن التفرغ، والذى يمثل الخطوة الأهم لضمان نجاح المنظومة الطبية.