حكاية "القلنسوة الرهبانية" التى ألبسها البابا شنودة لتلاميذ "متى المسكين" بعد وفاته
كيف أخضع البابا شنودة دير الأنبا مقار له بعدما كان مستقلا إداريا عن الكنيسة؟
ثلاثة عبارات دالة استخدمها البابا تواضروس في حديثه لرهبان أبو مقار
البابا مع جثمان الانبا ابيفانيوس
طرحت جنازة الأنبا ابيفانيوس أسقف ورئيس دير أبو مقار الراحل أسئلة أكثر من الإجابات، فالجنازة التي ترأسها قداسة البابا تواضروس صباح الثلاثاء للصلاة على جثمان الأسقف الذى قتل غدرًا في ديره فجر الأحد، كشفت عما كان الأسقف الراحل يحاول مداواته طوال حياته من الخلافات الفكرية والعقيدية وحتى الشكلية بين الآباء رهبان الدير، هي نفس المشكلات التي دفعت البابا تواضروس لتحذير الرهبان بملء الفم "أخرجوا الإنحراف بعيدًا عن الرهبنة، وأنتم لا تتبعون أحدًا بعينه فأنتم رهبان القديس العظيم الأنبا مقار، ولا تتحدثوا للإعلام لأن الرهبنة موت عن العالم".
وهي عبارات شديدة الدلالة إذا ما قرئت في إطار الصراع الدائر بين مدرستين فكريتين بالكنيسة القبطية يشكل رهبان دير أبو مقار أوضح صورة له، إذ تتشكل الخريطة الفكرية للدير برهبان من مدرستين، الأولى من السكان الأصليين للدير تلاميذ القمص متى المسكين ومدرسته الإصلاحية المعروفة باسم "التيار الآبائي"، والثانية من الرهبان الذين وفدوا إلى الدير بعد وفاة "المسكين" وهم الرهبان المنتمون لمدرسة البابا شنودة الفكرية المعروفة باسم المدرسة التقليدية، وهو الأمر الذى يفجر سيلًا من الأسئلة عن طبيعة الخلاف بين هاتين المدرستين، وهل كان لتلك الخلافات العقائدية تأثيرا على صفو الأجواء داخل الدير؟، ولماذا عمد البابا تواضروس إلى تعنيف الرهبان في عظة الجنازة بشكل لم يعهده أحد على البابا تواضروس من قبل؟
السؤال الأول: ما طبيعة الخلاف بين مدرسة البابا شنودة ومدرسة متى المسكين الكنسية؟
إذا كنا قد قررنا الخوض في أصل الخلاف بين مدرستي القمص متى المسكين والبابا شنودة الفكرية فعلينا، أن نعود في البداية إلى أصل الخلاف بين الرمزين الكبيرين، وإلى جذور العلاقة التي جمعتهما إذ كانت علاقة الأستاذ "متى المسكين" بتلميذه "البابا شنودة" مرت بعدة تحولات انتهت بالصدام ومازالت تبعاتها تؤثر على الكنيسة حتى اليوم، وربما تستمر تلك الآثار في المستقبل.
وفى الأربعينيات والخمسينات من القرن الماضى، كانت الكنيسة القبطية على موعد مع جيل جديد من الرهبان حملة المؤهلات الجامعية، رهبان يختلفون عن آباء البرية القدامى الذين زهدوا الدنيا وذهبوا يبحثون عن الله فى الصحراء، رهبان متسلحون بالعلم والمعرفة يجيدون اللغات الأجنبية متمرسون في البحث والكتابة، نشيطون في التعليم الكنسي إذ تزامن انضمامهم للأديرة مع الطفرة التي حدثت في مدارس التربية الكنسية المعروفة باسم مدارس الأحد، في تلك الفترة عام 1954 انضم "نظير جيد" الذى صار فيما بعد الراهب انطونيوس السرياني ثم البابا شنودة، إلى دير السريان، حتى أن المراجع القبطية تؤكد أن انضمام "السرياني" للرهبنة كان بإيعاز من القمص متى أو تأثرا بمدرسته، إذ كان المسكين راهبًا بالفعل في دير آخر هو دير الأنبا صموئيل بجبل القلمون بالمنيا، وقرر أن ينتقل لدير السريان.
بداية الخلافات بين البابا شنودة وبين القمص متى المسكين
ترشح الأب متى المسكين للكرسي الباباوي مرتين، الأولى كمنافس للبابا كيرلس عقب وفاة البابا يوساب الثاني عام 1956، والمرة الثانية كمنافس للبابا شنودة بعد وفاة البابا كيرلس عام 1971.
كانت الخلافات العقيدية قد بدأت تعرف طريقها إلى القمص متى المسكين والبابا شنودة، قبل أن يعتلى الأخير سدة كرسي مارمرقس، عام 1971 إذ اختلفا على مراجعة كتاب للقمص متى عام 1961، كان قد عهد للبابا شنودة بمراجعته إلا أن الأول لم يعتد بملاحظة الأنبا شنودة الذي كان آنذاك أسقفا للتعليم.
وأكد البابا شنودة في فيديو مسجل له، أنه أرسل للقمص متى أكثر من مرة ملاحظاته، إلا أن الأخير صمم على طبع كتبه بنفس ما جاء فيها مما دفع البابا للرد على كتبه في محاضرات بالكلية الإكليريكية دون ذكر اسم المؤلف، ثم وصف القمص متى في كتاباته بأنه "راهب أمين، لكن لا يدرك خطورة التعبير اللاهوتي الخاطئ".
داخل دير الانبا مقار
ومنذ الستينيات، وحتى أوائل القرن الـ21، استمر الخلاف العقائدي بين كل من القمص متى والأنبا شنودة، وكان أبرزها يدور حول مسألة "تأليه الإنسان"، و"عقيدة الكفارة والمبادلة الخلاصية"، "النقد الكتابي والتشكيك في صحة أجزاء بإنجيل مرقس وبعض عبارات انجيل متى"، و"دور الأعمال الصالحة في نوال الخلاص"، و"مفهوم الوحدة مع الطوائف الأخرى"، ومسائل أخرى.
وكان الأب متى المسكين قد حصل على مجموعة كاملة لأقوال الآباء مُترجمة إلى اللغة الإنجليزيـة، فقرأها بنهَمٍ، فانطبع فكر الآباء على تفكيره، واصطبغت حياته بسِيَر قدِّيسي الكنيسة، فخرجت كتاباته لها طعم كتابات آباء الكنيسة، دون الحاجة لذِكْر نصوص كثيرة حرفية لهم،وآمن الأب متى المسكين أنَّ الوحدة المسيحية يمكن أن تتحقَّق، ليس عن طريق الحوار بالدرجة الأولى، ولكن عـن طريق قدِّيسي كلِّ كنيسة، الذيـن بصلواتهم وسيرتهم سوف يُلهمون قادة الكنائس ما يُعينهم على إتمام الوحدة، وهو ما رفضه البابا شنودة وتياره الفكري.
وبلغ هذا الخلاف ذروته، حين تصادم البابا شنودة مع الرئيس السادات، حيث كان يقف القمص متى في صف الرئيس ويرى أن البابا مخطئًا في تصعيده ضد الدولة حين قرر إلغاء الاحتفالات بأعياد القيامة وعدم استقبال المسئولين بسبب ما جرى في حادث الزاوية الحمراء التى قتل فيها عشرات الأقباط بسبب فتنة طائفية، ثم تصاعد الصراع بين البابا شنودة والرئيس السادات وبلغ ذروته حين قرر الرئيس تحديد إقامة البابا وعدد من الأساقفة في دير الأنبا بيشوي بوادى النطرون عام 1981 ، وعقد السادات لقاء شهيرا مع القمص متى المسكين، قال المسكين إنه حاول من خلاله تهدئة الأمور إلا أن البابا شنودة رأى إنه زادها تعقيدا، وفقا لما يذكره كل منهما في مذكراته الخاصة التي نشرت عقب وفاتيهما.
ويرى كمال زاخر الكاتب المتخصص في الشأن القبطي، إن الخلاف بين البابا شنودة والقمص متى المسكين هو شكل من أشكال الصراع بين المثقف والسلطة وإن الاختلافات العقائدية هي الغطاء الخارجي الذى اتخذته الخلافات الشخصية بين الرمزين الكبيرين، مؤكدًا أن البابا شنودة كان يعمد إلى إقصاء كل من يخالفه الرأي.
ويوضح زاخر، أن أصل الخلاف العقيدي بين البابا شنودة والقمص متى المسكين، يعود إلى أن القمص متى وتلاميذه كانوا يقرأون اللاهوت القبطي من لغاته الأصلية حتى إن القمص قد استعان بمعلم لغة يونانية في دير أبو مقار، حين ذهب إليه في السبعينات، حيث قضى بقية حياته هناك، بينما كان البابا شنودة وتلاميذه يقرأون المراجع القبطية عبر لغات وسيطة.
السؤال الثاني: ما علاقة دير الأنبا مقار بتلك الخلافات؟
دير الانبا مقار
دير الأنبا مقار هو المسرح الذى شهد أحداث الصراع بين "المسكين" والبابا شنودة، إذ قرر الأول قضاء ما تبقى من حياته في هذا الدير بين تلاميذه ورهبانه وذلك بعدما عاد البابا شنودة للكاتدرائية وانتهت فترة تحديد إقامته عام 1985 في بدايات عصر الرئيس مبارك.
كان دير القديس الأنبا أبو مقار أقرب للمستقل فكريًا وإداريًا عن الكنيسة، يرتدى رهبانه ملابس رهبانية مختلفة، يقرأون ويترجمون ويصدرون كتبا تترجم لعدة لغات، ويعلن البابا شنودة خلافه معهم علنًا حين يجيب عن أسئلة في عظاته يقول في إحدى التسجيلات إن المحبة لا بد وأن تكون متبادلة وإنه قدم المحبة للدير ورهبانه دون جدوى"، ثم بدأ البابا شنودة الرد على كتب القمص متى المسكين في محاضراته بالكلية الإكليريكية، وانخرط الأنبا بيشوى مطران دمياط وكفر الشيخ في سلسلة للرد على كتاباته متهما أياه بإفساد العقيدة.
وطوال عصر البابا شنودة كانت كتابات القمص متى المسكين ممنوعة كنسيًا، فلا تباع في مكتبات الكنائس ولا توزع إلا في دير الأنبا مقار، حتى أن معرضا للكتاب القبطي بالكاتدرائية قد شهد مصادرة للكنيسة لنسخ من كتب متى المسكين من جناح المعروضات.
السؤال الثالث: ماذا فعل البابا شنودة بعد وفاة متى المسكين مع رهبان دير أبو مقار؟
وتروى الصحف واقعة شهيرة في عام 2009 وبعد وفاة القمص المسكين بثلاث سنوات، زار البابا شنودة دير الأنبا مقار في زيارة تاريخية، وأقدم لأول مرة فى تاريخ الكنيسة الحديث على تغيير «الزى الرهبانى» لرهبان لدير «أنبا مقار»، ليتم توحيده مع بقية الأديرة، ليكون بمثابة الإعلان الختامى لانتهاء استقلالية دير «أنبا مقار»، عن الكنيسة، وتم تخيير الرهبان بين ارتداء غطاء الرأس التقليدي "القلنسوة المشقوقة" وبين الإبقاء على ملابسهم، فمنهم من ارتداها فصار تابعًا للبابا شنودة ومنهم من رفض، ثم قرر الأنبا ميخائيل مطران أسيوط والرئيس التاريخي للدير الاستقالة من منصبه إذ قيل وقتها إنه غير مرحب بقرار الكنيسة إنهاء استقلالية هذا الدير إداريا وفكريا عنها، وقد كان، فقد نجحت الكنيسة فى السيطرة على أملاك الدير، ثم سيطرت على أغلب رهبانه أو أرغمتهم على الخضوع قبل حلول الذكرى الثالثة لرحيل المسكين بشهر.
كانت جميع إصدارات الدير والتى تعد بالآلاف طوال حياة متى المسكين تتصدرها صورة للمسيح وأسفلها التعليق التالى «الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الأعظم، الأسقف الكبير ورئيس الأسقفية والأول فى طغمة الكهنوت ورأس الكنيسة» وهو التعليق المقصود بكل وضوح لتبرير الامتناع عن نشر صورة البابا بوصفه رئيس الأساقفة، ثم صدر كتاب عن الدير لأول مرة عام 2009 تتصدره صورة البابا شنودة.
السؤال الرابع: لماذا أوصى البابا تواضروس الأنبا ابيفانيوس بلم شمل الدير؟
البابا تواضروس والانبا ابيفانيوس عند رسامته رئيسا للدير
عام 2013، قرر البابا تواضروس تعيين أساقفة جدد، وكان الأنبا ميخائيل رئيس دير الأنبا مقار في أيامه الأخيرة بدأ في التسعينات من عمره، جلس البابا تواضروس مع رهبان الدير أكثر من مرة ليختار رئيسا لهم، وقد كانت الانقسامات بلغت حدا واسعًا بين مدرستي متى المسكين والبابا شنودة، وترشح لرئاسة الدير ثلاثة أسماء حصل الأنبا ابيفانيوس على غالبية أصواتهم مثلما ذكرت الكنيسة رسميا، إلا أن مصادر من آباء الدير تؤكد أن الأنبا ابيفانيوس قد حصل على غالبية أصوات الآباء المنتمين لمدرسة متى المسكين الرهبانية وليس كافة آباء الدير الذي امتنع عدد غير قليل منهم عن التصويت لأي من الأسماء الثلاثة المطروحة.
كان أول ما أوصاه البابا تواضروس للأنبا ابيفانيوس وقت رسامته "لم شمل الدير" بعد تلك الخلافات التي استمرت من 2006 وحتى 2013.
السؤال الخامس: ما سر غضب البابا تواضروس من الرهبان في جنازة الأنبا ابيفانيوس؟
البابا
ظهر البابا منكسرا حزينا باكيًا في تلك الجنازة، ولأول مرة يوجه رسائل حازمة لرهبان في عظة مذاعة أمام الرأي العام مستخدما عبارات شديدة الدلالة والأهمية.
العبارة الأولى: لستم تابعين لأحد
البابا تواضروس حزينا
إذ قال للرهبان "أنتم لستم تابعين لأحد" في إشارة للمدرستين الموجودتين بالدير مذيلا كلامه بالعبارة "أنتم رهبان القديس مكاريوس الكبير" ويقصد القديس مقار الذى يتسمى الدير باسمه.
العبارة الثانية: ليس من حقكم الحديث فى الإعلام
كانت نبرة البابا حاسمة وحازمة حين طالب الرهبان بالتوقف عن الحديث للإعلام، بعدما صرحوا للصحف وللفضائيات عقب ساعات من مصرع الأنبا إبيفانيوس، وهو ما رآه البابا يختلف مع جوهر الرهبنة التى هى موت اختيارى عن العالم.
رهبان الدير
العبارة الثالثة: اخرجوا الانحراف بعيدًا عن الرهبنة
نتيجة لما سبق يصف البابا تواضروس ما يجرى من انقسام وحديث للإعلام بالانحراف الذى يبعد الرهبنة عن جوهرها أى حياة العزلة والفقر الاختيارى، بالإضافة لحالة أخرى من الشائعات قد يشهدها الدير عقب وفاة أسقفه ورئيسه.
وفي الجنازة نفسها ظهر رهبان دير الأنبا مقار، بشكلين من القلنسوات الرهبانية، الأولى هي القلنسوة السريانية التي ألبسها البابا شنودة للرهبان في زيارته المشار إليها عام 2009، والثانية هي القلنسوة القبطية التي عرف بها آباء دير أبو مقار على رأسهم القمص متى المسكين، إلا أن هذا التباين الشكلي لا يعني بوضوح أن كل من ارتدى قلنسوة معينة منهما ينتسب لمدرسة بعينها، بل إن محاولات الأنبا ابيفانيوس للم شمل الدير التي استمرت حتى وفاته جعلت الكثير من الرهبان يحاولون توحيد الزي الرهباني وطي صفحة الخلافات السابقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة