- «لازم تسمعونى.. أنا عاوزة وغاوية» كلمة أطلقتها نجاة صارخة فى إخوتها الذين لا يريدون أن يسمعوها.. فسمعها العالم كله
كانت أقصى أمانيها حينما كادت تنطق الحروف أن تغنى، وتحديدًا أن تغنى مثل أم كلثوم.. فى المنزل رقم 43 بشارع إبراهيم باشا، فى 11 أغسطس 1936 ولدت نجاة محمد حسنى، الملقبة بـ«نجاة الصغيرة».. وفى شرفة هذا المنزل، كانت تسمع أشقاءها ينادون: «يا بتاع الدرة»، فتردد وراءهم النداء منغمًا مرة، ثم تعيده أكثر من مرة بألحان مختلفة، وبانسجام شديد.
وفى هذا المنزل، وعلى نحو لا تفهمه سحرتها الموسيقى، وسحرها العود كما سحر والدها فى شبابه، ورأت أشقاءها الذين رفض والدهم تعليمهم فى المدارس لاعتقاده أنها تفسد المواهب، يشكلون فى البيت تختًا صغيرًا، تتابعهم فى صمت، حتى ألحت ذات مساء: «لازم تسمعونى.. أنا عاوزه وغاوية».
تعلقت نجاة الصغيرة بأغانى أم كلثوم، وسهرت لياليها- كما تخبرنا الكاتبة رحاب خالد فى كتابها "نجاة الصغير" - فكانت تجلس لطعام العشاء ولا تأكل، ثم تأوى إلى الفراش ولا تنام، وفى الصباح تردد ما حفظته فى الليل وكأنها شريط مسجل، فحتى وإن أخطأت أم كلثوم، كانت نجاة تقلدها فى خطئها، حتى جاء يوم، واصطحبها شقيقها إلى معهد الموسيقى العربية، وهناك، حينما سألها المدير: «إنت صحيح بتعرفى تغنى؟»، فلما سمعها وهى تغنى «أراك عصى الدمع» أخذته الدهشة وقرر أن تكون مفاجأة حفلة المعهد، ومنذ تلك الليلة وهى تقول لشقيقها: «أنا عايزة أغنى وأبقى زى أم كلثوم».
وحينما حان موعد حفلتها، وغنت، وأطربت الحاضرين بصوتها الشجى، تصدر اسمها صفحات الفن «خليفة أم كلثوم». وتمضى بها الأيام، دون أن تدرك وهى ما زالت طفلة، بأنها صارت نجمة تتعلق بها الأعين أينما ذهبت، وفى صباح يوم الاثنين 5 أغسطس 1946، تأخذ نجاة مكانها فى عربة «البولمان» بالقطار المتجه إلى الإسكندرية، وبجوارها والدها، الذى يتصفح جريدة «الأهرام» فينبهها إلى صورتها فى صدر الصفحة الثالثة والتى تضمن إعلانًا نصه: «ثريا حلمى وشكوكو ومحمد سلمان مع فرقة كوكب السينما والمسرح يقدمون ابتداء من اليوم بتياترو فؤاد بالإسكندرية البلبلة الحسناء الصغيرة التى تشبه كبيرة مطربات الشرق أم كلثوم».
كانت الحفلات الرسمية عادة ما تخصص فقرة لأناشيد الأطفال، وتحديدًا فى المواسم الدينية والمناسبات الوطنية، وذات ليلة فى حفلة للإذاعة تحييها أم كلثوم على مسرح الأزبكية، كان ببرنامجها نشيد غنته نجاة مع الأطفال، وتأخرت أم كلثوم حتى ظن المشرفون أنها لن تحضر، فاستعانوا بنجاة لتقدم الأغنية التى كان من المفترض أن تغنيها أم كلثوم، وهى «غلبت أصالح فى روحى»، وبينما يصفق الجمهور لها، ارتبكت نجاة حينما رأت أم كلثوم جالسة فى الكواليس، ولولا أن أم كلثوم شجعتها بإشارة من يديها لتوقفت نجاة عن الغناء، ولما انتهت تركت تصفيق الجمهور، وهرولت إلى أم كلثوم التى فتحت لها ذراعيها واحتضنتها وأجلستها على ساقيها وهى تقول لها: «آه يا بنت يا عفريته! بقى تغنى أغنية الوصلة بتاعتى وإنت قد كده، أومال لما تكبرى هتعملى إيه؟!».
وكبرت نجاة، وعلى الرغم من النجاح الذى حققته بصوتها أولًا، ومشاركاتها فى السينما ثانيًا، فإنها لم يكن لديها من المؤهلات المكملة للنجاح سوى صوتها الذى جذب الأنظار إليها، لكنها لم تيأس، وعلمت نفسها كيف تتذوق كلمات الأغانى جيدًا، وعلى هذا الحال سجلت العديد من الأغانى، حتى جاءتها أغنية «ليه خلتنى أحبك» من كلمات مأمون الشناوى، وألحان كمال الطويل، فنجحت نجاة، وصارت منذ ذلك الوقت تتعاقد على إحياء الحفلات الكبرى فى القاهرة والإسكندرية، تاركة بذلك منديل أم كلثوم، وتتنافس شركتا «أوديون» و«كايروفون» على احتكار صوتها، وخلال خمسة أسابيع تسجل ألحانًا كثيرة، ويقفز اسم نجاة الصغيرة إلى الصف الأول من المطربات، وتتسابق الصحف على نشر صورها وأحاديثها.
عاشت نجاة الصغيرة حياة ثرية، حققت فيها العديد من النجاحات، سواء على مستوى السينما أو الأغنيات التى كانت تقدمها فى الحفلات، حتى حفلتها الأخيرة فى 27 مارس 2002، تلك الحفلة التى استعادت فيها مع جمهورها «الطير المسافر» و«عيون القلب» و«أيظن» بكل انفعالاتها، وكأن عقارب الزمن لم تتحرك، فتعاتب وترجو وتشتاق، لينبعث صوتها فى تلك الليلة بالدفء، لتدرك لحظتها أنها بلغت القمة، وحان وقت الاعتزال.
اختارت أن تصمت مهما كان لديها ما تقوله، قررت أن تتوقف وهى بعد قادرة على الاستمرار، أن تعتزل وهى تملك إرادة الاعتزال، فكان فى ذلك الوقت بعد كل ما عاشته، أن يقال «لمَ اعتزلت؟» من أن يقال فيما بعد «لماذا لم تعتزل؟».
وفى قيمة الهدوء، ومنتهى البساطة والوداعة والسماحة والسلام، همست إلى صديقتها سناء البيسى: «قررت الاعتزال». بهذه العبارة قررت الاعتزال وتركت جمهورها فى انتظار كلمة أخرى تقول فيها إنها ستعود، لكنها لم تقل شيئًا.. ولم تعد.. بالصمت قررت عدم الظهور فى وسائل الإعلام.