أطل برأسه من الصندوق الخشبى باحثا عن فتاته الصغيرة، لكنه لم يلمحها بين الحضور، بُهت من الوجوه الكثيرة التى تحيط صندوقه الخشبى القديم. مشيعون كثيرون يتبعونه لم ير أكثرهم منذ سنوات طويلة، والبعض الآخر لا يعرفهم على الإطلاق. لماذا تذكروه الأن؟ ليعتبروا به أم جاءوا بحسن نية فقط لوداعه
تذكر يوم اتبع مثل كثيرين جنازة أقرب الأشخاص إلى قلبه فى صيف سبتمبر 2006. تساءل فلماذا ألوم على من خرج لوداعى اليوم وأنا لا أعرفه؟ ترى هل تضايق الأستاذ يوم زاحمت معارفه وأصدقائه وتقدمت لحمل نعشه باكيا؟ ربما لم يعرفنى الأستاذ يومها ولكنى أحفظه عن ظهر قلب وابنتى أيضا تحفظه معى. تذكر صغيرته التى بحث عنها وسط المشيعين ولم يجدها، أطل برأسه من جديد باحثا عنها. التقت عينيهما هذه المرة، ولكن المياه المالحة التى غمرت عينيها أحاطت لقاءهما بغيمة من الحزن الثقيل، تذكر يوم جاءت طفلته الصغيرة باكية لأن أمها ترفض زراعة نخلة أمام البيت، فسألها ولما تريدين زراعة نخلة بالذات؟
- كى نسافر أنا وأنت إلى أى بلد نريده؟
- وما علاقة سفرنا بزراعة النخل؟
- كل أصحاب منير سافروا بالنخلة؟
- علت ضحكات عادل، وأدرك أن صغيرته المفتونة مثله بفؤاد المهندس تتحدث عن فيلمه "مطاردة غرام" وقتها تسلق منير النخلة وتسابقت الفتيات على اللحاق به فما كان من صديقه إلا أن هز النخلة بقوة فطارت كل فتاة إلى بلدها فظنت الصغيرة أن ذلك يمكن أن يحدث ذلك فى الحقيقة.
تلك الصغيرة الباكية اليوم أقرب الأبناء إلى قلبه، ورثت حب الأستاذ عنه، كانت تتوقف عن البكاء كلما أطل فؤاد المهندس من شاشة التلفزيون، كان يحاور الماكينة راجيا أن تحقق حلمه وتطلع قماش كفرد أصيل فى عائلة زيزى فتفرح صغيرته عندما يصرخ معلنا نجاح اختراعه الجديد "المكنة طلعت قماش"، وتعلو ضحكاتها عندما يردد مسرعا "طويل العمر يطول عمره ويزهز عصره وينصره على مين يعاديه.ز هاى هيئ" كلما ذُكر أحد اسم مارينجوس الأول فى "صاحب الجلالة"، فكانت تتسابق مع إخوتها من يستطيع منهم تكرار هذه التحية مُسرعا دون خطأ كما يرددها الأستاذ.
تندهش الأم فى صمت من تعلق ابنتها بفؤاد المهندس، فقد اعتاد الأطفال الميل إلى إسماعيل يس بحركات فمه المضحكة، تلك الكوميديا المعتمدة على الشكل الجسدى ذلك النمط الذى عانى منه فؤاد المهندس فى بدايته عشر سنوات كاملة، فقد تزامن ظهوره مع افتتان السينما والأعمال الفنية عامة بذلك النمط من الكوميديا بينما لا يملك "الأستاذ" فما واسعا كأسماعيل ولا ضحكة رنانة كحسن فايق، كان المهندس نجم كوميديا النص فانتظر طويلا حتى اعترفت السينما بقدرته على تصدر أفيش أعمالها الفنية.
تعلق عادل بالأستاذ بدأ منذ طفولته فقد ولد فى حى العباسية مثله، فنشأ وسط أهالى الحى الفخورين بانتماء فؤاد المهندس إلى العباسية، فقد ولد فؤاد زكى المهندس فى سبتمبر 1924 لأب عالما للغة العربية بالمجمع اللغوى وأستاذا بكلية دار العلوم فكان فؤاد الأخ الثالث لبنتين إحداهما كانت الإذاعية اللامعة صفية المهندس التى كانت سببا بالصدفة فى دخول فؤاد عالم الفن على أيدى كشاف المواهب الشاعر عبدالرحمن الخميسى كما ذكر يوسف الشريف فى كتابه "عبدالرحمن الخميسى.. القديس الصعلوك" قائلا:
"من طرائف ثقته بالنفس ونظرته التى لا تخيب فى اكتشاف المواهب –يقصد عبدالرحمن الخميسى- عندما كان يقوم بإخراج مسلسل إذاعى من تأليفه، وحين فشل أحد الممثلين فى أداء دوره، رغم منحه فرصة للإعادة خمس مرات. استشاط غضبا وحمله إلى خارج الأستديو، وعندئذ لمح شابا يجلس فى الممر، فسحبه من يده إلى داخل الأستديو، ثم قدم له النص وطلب أن يقرأه، ثم طلب منه أن يمثله ونجح أيما نجاح، وبعدها انفتحت أمامه أبواب التمثيل والشهرة عبر البرنامج الفكاهى الشهير ساعة لقلبك ومنه كان طريقه لأدوار البطولة فى السينما والتليفزيون، ولم يكن هذا الشاب سوى فؤاد المهندس الذى كان حينذاك بالمصادفة ينتظر فى الممر شقيقته الإذاعية صفية المهندس".
ومع فرقة ساعة لقلبك تألق المهندس وقدم أروع أعماله المسرحية على مسرح التليفزيون أولها السكرتير الفنى التى لعب بطولتها بعدما رشحه صديقه الفنان عبدالمنعم مدبولى بدلا من السيد بدير الذى كان مقررا بطلا للمسرحية، ولكنه اضطر أن يسافر للخارج، فقدم المهندس الدور أمام بطلة جديدة تحمس مدبولى وبدير لتقديمها فى المسرحية فكان اللقاء الذى جمع فؤاد بشويكار معا على خشبة المسرح، وكانت سببا فى الجمع بينهما فى الحياة أيضا.
تذكر عادل يوم حكى لطفلته الصغيرة قصة زواج نجمه المفضل وشويكار، كانا يشاهدان مسرحية السكرتير الفنى فى حجرة صغيرته بعيدا عن بكاء الصغير الوافد الجديد على المنزل الذى أسماه فؤاد تيمنا بالأستاذ، وبادرها "عمو فؤاد تزوج شويكار فى هذه المسرحية" واستطرد يصف لطفلته.. وقف الأستاذ أمام الجمهور وقالها: "تتجوزينى يا بسكوتة" ابتسمت الصغيرة، وطلبت من أبيها أن يناديها هو أيضا "بسكوتة" وتابعت المسرحية بحماس فى انتظار مشاهدة حفل الزواج، ولكنها لم تر شيئا ونظرت إلى أبيها نظرة ارتياب فى قصته، فابتسم وقال لطفلته الصغيرة ربما يعرضون الفرح المرة القادمة يا بسكوتة.
ارتفعت أصوات المشيعين، وتعالت صيحاتهم بالشهادتين. اقترب الحشد من وجهته، فانشقت الأرض، ولمح صغيرته تلقى عليه النظرة الأخيرة، أهالوا عليه الثرى وقرأوا الفاتحة وغمروه بالدعاء ثم انصرفوا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة