أستهل مقال اليوم بكلمات النبى محمد صلى الله عليه وسلم: "إنما بٌعثت لأتمم مكارم الأخلاق ،"فقد كان سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه مثالاً للصدق والأمانة فى قومه، حتى إنه كان يعرف بينهم بـ"الصادق الأمين "وقد أمرنا المولى عز وجل بضرورة الالتزام بالصدق
- قَالَ الله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة ١١٩)
قالَ تَعَالَى: (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ) (الأحزاب ٣٥)
- قالَ تَعَالَى: (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ) (محمد ٢١)
وكما ذكرت فى أول مقالات مكارم الأخلاق وعلاقتها بالمجتمع وأهميتها فى الارتقاء به أن الأخلاق قد عرفها أقدم إنسان على وجه الأرض من قبل الأديان بآلاف السنوات، وطورها وتناقلها من زمنٍ لآخر حتى يومنا هذا .
وعندما نتحدث عن أقدم حضارة وأعرق جنس بشرى وفجر ضمير الإنسانية ستتوجه أنظارنا جميعا إلى مصر.
فقد وضع المصريون القدماء قوانين الماعت الـ42 التى وُجدت مدونة بالكامل فى كتاب الخروج إلى النهار ، الذى سبق ظهور الوصايا العشر بحوالى 2000 سنة، وهى لم تأت من فراغ ولم تنبثق فجأة، فقد سبقها ظهور تعاليم "بتاح – حتب" وكلها أدلة على إعلاء قيمة الفضيلة فى مصر القديمة منذ فجر تاريخها، وفيما يخص موضوع مقال اليوم وهو "الصدق" سأطرح عليك عزيزى القارئ بعض قوانين الماعت الخاصة بالصدق ضمن الـ٤٢ قانونا:
مثل أنا لم أكذب
أنا لم أغلق أذناى عن سماع كلمات الحق
أنا لم أتحدث بالمبالغة (النميمة)
ونحن فى سلسلتنا هذه عن القيم الأخلاقية سنحاول أن نكشف الستار عن تلك القيم التى تتوافق فى معظمها مع تعاليم الديانات السماوية، والتى أيضاً لا تتنافى مع القيم والأعراف المجتمعية الحالية،
"الصدق:"
فضيلةٍ ما زلنا فى أمس الحاجة إليها، فالمصريون القدماء تحلوا بالصدق، ودعوا ذويهم إلى التخلق به، وارتبط الصدق عندهم بالعقيدة، فقد ذكروا أن معبود الشمس رع دعاهم قائلًا، «قل الصدق وافعل ما يقتضيه فهو العظيم القوى».
وها هو «بتاح حتب» - أحد أهم حكمائهم على الإطلاق - ينصح ابنه قائلًا: «… احرص على الصدق…».
وهكذا كان المصرى القديم متمسكًا بفضيلة الصدق، داعيًا غيره إلى التحلى بها، وكان فى ذلك معتقدًا أن الله سيجازيه على كل ما ينطق به لسانه؛ سواءً كان صدقًا أم كذبًا.
حتى إن "الفلاح الفصيح" فى شكواه إلى الأمير يثيره نحو الصدق فيقول: «… ولا تكذبن وأنت عظيم، ولا تكونن خفيفًا وأنت عظيم، ولا تقولن الكذب فإنك الميزان، إنك على مستوى واحد مع الميزان، فإذا انقلب انقلبت، ولا تغتصبن بل اعمل ضد المغتصب، وذلك العظيم ليس عظيمًا ما دام جشعًا، إن لسانك هو ثقل الميزان، وقلبك هو ما يوزن به، وشفتاك هما ذراعاه، فإن سترت وجهك أمام الشر فمن ذا الذى يكبحه؟»
فالصدق من شأنه أن يصلح أحوال المجتمع فى كافة المناحى، فإن كان هناك صدقا بين الناس ستنتعش عمليات البيع والشراء والتبادلات التجارية، فلن يحجب أحد بضاعته ويخشى التعامل مع الآخر الذى لا يثق بوعده وميثاق شرفه، ولن يُقدم المستهلك على سلعة لا يثق بجودتها، وإن كانت تتصدر الإعلانات التى تتكلف ملايين الجنيهات ،ولن يأمن الجار جاره إذا استغاث به وطلب منه مساعدة ما إن لم يكن يعهده صادقاً ،وسينصرف المشاهدون عن شاشات الصندوق الصغير التى تخلو من المصداقية ولا تعتمد مبدأ الصدق وسيسأم المحكوم حاكمه إن لم يكن صادقاً معه فيأتمنه على نفسه وأهله ومستقبل أولاده.
فانعدام المصداقية بين الحاكم والمحكوم لا شك سيخلق حالة فقدان للثقة وخللا بين كفتى الميزان اللتين إن اعتدلتا ستتزن الأمور، بحيث يكون المواطن عوناً لحاكميه وطوعاً لهم وسيكونون هم له مصدراً للثقة والأمان و الاطمئنان، وهذا غاية المراد من رب العباد لمجتمع فاضل صادق يواجه الأزمات ويتحدى الصعاب لطالما كان هناك هذا التناغم وتلك الثقة المتبادلة .
أى أن صلاح المجتمع واستقامته ونهضته تقوم بشكل أساسى على تلك القيم الأخلاقية التى نسعى جميعاً لإحيائها ومن أهمها الصدق.
كما أكدت كافة الحضارات الإنسانية التى تلت الحضارة المصرية القديمة على ترسيخ تلك الفضائل و القيم الأخلاقية.
فعلى سبيل المثال كان الصدق من أهم الفضائل التى حثت عليها تعاليم "التاوية" للفيلسوف الصينى "لاو تسو"، حيث قال "فى الكلام ما يهم هو الصدق ."
ومن بعد التاوية ظهرت "الكونفوشيوسية "حيث أسس الفيلسوف الصينى كونفشيوس مذهبه الإنسانى على فكرة تكوين الرجل المثالى بحيث يصبح معيار الصلاح فى كل شىء،
فكانت أهم تعاليم الكونفوشيوسية فيما يخص الصدق
" أن تكون الأقوال على قدر الأفعال "
وإلى اليهودية والوصايا العشر التى أمر بها الله الشعب فى سفر الخروج، والتى حثت فى إحدى نقاطها الأساسية على الصدق كما يلى: "لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ".
فمن أهم صفات حسن الخُلُق :
أن يكون الإنسان كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام.
وها هو مسك الختام لمقال اليوم عن فضيلة "الصدق" كلمات الصادق الأمين عليه الصلاة و السلام .
- عن ابن مسعود رضى الله عنه، عن النَّبى صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «إنَّ الصِّدقَ يَهْدِى إِلَى البرِّ، وإنَّ البر يَهدِى إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الفُجُورِ وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِى إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ الله كَذَّاباً» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
عن أبى محمد الحسن بنِ على بن أبى طالب رضى الله عنهما، قَالَ: حَفظْتُ مِنْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ؛ فإنَّ الصِّدقَ طُمَأنِينَةٌ، وَالكَذِبَ رِيبَةٌ» رواه الترمزى.
وإلى لقاء قريب مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق .