الإشاعات قديمة على الأرض قدم الإنسان، وقد تعرض لها أنبياء الله ورسله، ولم تسلم منها دولة من الدول أو عصر من العصور، وهناك دراسات أكاديمية تناولت أثر الإشاعات على دولة ما فى عصر من العصور، وتختلف أهداف ترويج الإشاعات ما بين سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية وغيرها من الأهداف، وقد تقوم بها جماعات معينة أو أحزاب ما أو أجهزة معنية فى دولة أو دول معادية، ويكون ذلك فى وقت السلم والحرب أيضا.
وقد فزعت حين سمعت أن أجهزتنا المعنية قد رصدت أكثر من عشرين ألف إشاعة خلال فترة وجيزة، ولم يكن فزعى بسبب كثرة الإشاعات وتنوعها بقدر ما كان بسبب انتشارها فى مجتمع متدين تسوده الأخلاق والقيم والمبادئ، فالإسلام والمسيحية على السواء يحرمان الإشاعات ويؤثمان مروجيها، فهى نوع من الكذب المنكر شرعًا والمذموم عرفًا، بل هى أخطر أنواع الكذب على الإطلاق لما تهدف إليه من إثارة البلبلة وإحداث الفتن بين الناس فى مجتمع ما، وربما بين دولة وأخرى، وقد عد الإسلام الكذب كبيرة من الكبائر المسقطة لمروءة المرء حتى إنه يفقده صلاحية الشهادة عند القاضى، ولم يقف الإسلام عند تحريم الكذب، بل حذرنا من تلقف الأخبار وترديدها دون تحرى صدقها، يقول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ».
وترويج الإشاعات يعد خيانة للدين والوطن، وقد قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»، وهو نوع من ظلم الغير، والله تعالى يقول: «وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»، كما أنه صورة من صور الإفساد فى الأرض، وقد حذرنا ربنا عز وجل من ذلك، بل إن عقوبة الإفساد فى الأرض هى أشد عقوبة فى الإسلام، يقول تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»، وإذا كان الكذب طريقًا إلى جهنم لقول النبى - صلى الله عليه وسلم: «وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»، وإذا كان هذا الوصف يصدق على مَن يكذب على صديق أو زميل فى أمر من الأمور التافهة، فما بالنا بمن يخترع خبرًا كاذبًا يضر أو يضلل أو يدمر مجتمعًا كاملًا أو يصيبه بالذعر والهلع أو الإحباط واليأس المؤدى إلى فشل الأمم وانهيارها؟!
إن عقاب هذا النوع من الكذب المسمى بالإشاعات عند الله عظيم، فالعقاب والجزاء على قدر الضرر المترتب على القول أو الفعل، وإذا كان رمى الغير بالزنى وهو المعروف بالقذف - الذى هو نوع من الكذب - موجبًا لثلاث عقوبات دنيوية: الجلد ثمانين جلدة، وعدم قبول الشهادة عند القاضى، واكتساب صفة الفسوق، لقوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ»، فإن مروجى الإشاعات يخالفون تعاليم دينهم ويرتكبون جريمة نكراء فى حق مجتمعهم بأكمله لا فى حق فرد واحد منه، وسيسألون عن كل كلمة قالوها كذبًا وافتراء وروجوا لها بهتانًا وزورًا، يقول الله تعالى: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، كما حذر رسولنا الكريم من خطورة الكلمة فقال: «وهل يكب الناس فى النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!».
والمؤسف والمؤلم فى هذا السياق أن بعض مروجى الإشاعات فى وطننا قد ينتمون إلى جماعات ترفع راية الإسلام وتتسمى باسمه لأهداف سياسية، وكم أخبار تبين كذبها وعدم ارتباطها بالواقع كان مصدرها قنوات أو جرائد أو مواقع إلكترونية مغرضة، فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعى التى تنتشر فيها الأخبار الكاذبة كالنار فى الهشيم! ويعد هذا السلوك من أبشع صور الإجرام واستغلال الدين والبعد عن تعاليمه الراقية، ولعل هؤلاء المغالطين المخادعين فهموا أن تسامح الشرع فى الكذب على الأعداء كنوع من التكتيك الضرورى لتحقيق النصر، يبيح لهم الكذب المطلق وترويج الإشاعات باعتبار أنهم فى خصومة مع المجتمع ونظام الحكم، ولا يخفى على طلاب العلم فضلًا عن العلماء أن استحلالهم الكذب وترويجهم الإشاعات على اعتبار أنهم فى حالة حرب مع الدولة واضح البطلان، وهو فهم سقيم وجهل مركب، فالشرع مع الدولة بمؤسساتها الشرعية لا مع المفسدين فيها، وهؤلاء الكاذبون المخادعون يفسدون فى الأرض بمناصبتهم الآمنين العداء وسعيهم للإضرار بالمجتمع ومؤسساته من خلال إطلاقهم الإشاعات والترويج لها، فكيف لهم أن يتستروا بالدين أو أن ينتظروا من نصوصه التأييد؟!
ومن الإشاعات التى تجر وبالًا على المجتمع ما يتضمن مثلًا نية الدولة زيادة سعر سلعة تموينية معينة، فيقوم الناس بشراء كميات كبيرة منها - قد لا يحتاجون إليها - لتخزينها قبل تطبيق الأسعار الجديدة التى حملتها الإشاعة، وهو ما يترتب عليه نقص شديد فى المعروض بالأسواق من هذه السلعة، ويتبع ذلك ارتفاع كبير فى سعرها لنقص المعروض منها عن المطلوب نتيجة زيادة الإقبال عليها لتخزينها، ولولا الإشاعة لما حدث هذا الخلل بين المعروض والمطلوب ولظلت الأسعار فى حال الاعتدال، وزيادة أسعار السلعة بسبب الإشاعة يُسأل عنها شرعًا مروج الإشاعة. وهذا مثال من أبسط الأمثلة التى يمكن أن تترتب على إثارة إشاعة تتعلق بسلعة واحدة، فما بالنا لو كانت تتعلق بعدة سلع ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها؟! وما بالنا لو كانت الإشاعة تتعلق بانتشار مرض فتاك، أو اختلال الأمن فى منطقة ما، أو تمكن إرهابيين من السيطرة على طريق حيوى، أو إرتفاع أو انخفاض كبير فى سعر العملة مما يتسبب فى سحب الودائع من البنوك قبل انهيار قيمتها، أو شراء كميات من العملة التى زعمت الإشاعة أن قيمتها سترتفع، مما يترتب عليه إحداث خلل فى الاقتصاد وإضرار بأموال الناس قد يترتب عليه موت بعضهم أو على الأقل إصابتهم بأمراض خطيرة جراء سماعهم الخبر الكاذب عن خسارتهم مثلًا؟! وما بالنا لو كانت الإشاعة تتعلق بالأعراض وما يترتب على ذلك من جرائم قتل لأبرياء وتشريد لأسر انتقامًا وثأرًا لشرف لم يُمس وموبق لم يُرتكب؟!
وليدرك الجميع أن الإشاعات تجد بيئتها الخصبة فى المجتمعات التى تفتقد الوعى ويسودها الجهل وتنتشر فيها البطالة، ولأن الإشاعات أشد خطرًا على المجتمع من حرب الإرهاب ومواجهة الأعداء، فإنه يجب على المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية والإعلامية والفنية أن تتضافر جهودها لتهذيب النفوس وغرس القيم والمبادئ الأخلاقية السوية، وتهيئة المجتمع وتوعيته بألا يصدق أو يردد ما يتلقفه من أخبار دون التأكد من مصداقيتها، وبث روح الثقة بين الحاكم والمحكوم والقضاء على كل ما من شأنه أن يضيع هذه الثقة، إلى جانب ضرورة تكذيب الإشاعات إعلاميًّا وتفنيدها وبيان خطورة الانجراف وراءها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة