أولريخ جاسبر سيتزن (أو الحاج موسى)، ولد فى مدينة سوفيانجرودن (جورجيا حاليًا) عام 1767 لعائلة ثرية، فحرص أبواه على أن ينال قدرًا كافيًا من التعليم، وجاء هذا الحرص الأبوى فى ظل ميل من الشاب نفسه المحب للعلوم والطب، فتخرج فى جامعة جوتينجن غرب ألمانيا، ولم يتوقف عند هذا الحد، بل تعلم علم الحيوان، والنبات، وعلم المعادن والمناجم والصناعات.
متسلحًا بهذا العتاد العقلى العظيم، خطط "أولريخ سيتزن"، لخوض أول سلسلة من سلاسل أسفاره سنة 1217 هـ (1802م)، حيث سافر إلى القسطينطينية، ومنها توجه لآسيا الصغرى، وقضى سنة فى حلب وأخرى فى دمشق، وبنهاية 1220 هـ، كان قد أنهى تعلمه اللغة العربية وعادات العرب، وفى 1221 هـ استكشف البحر الميت فى رحلة متنكرة بزى متسول، ومن فلسطين سافر إلى القاهرة وعاش فيها 3 سنوات، وحينها كان ينوى أن يزور المدينتين المقدستين (مكة والمدينة) ويحظى بلقب "حاج" لتسهل مهمته فى البلدان الإسلامية.
أولريخ جاسبر سيتزن
وبدأ "أولريخ"، ترحاله للجزيرة العربية عن طريق البحر، حيث أبحر من السويس مع 15 حاجًا من جنسيات متعددة إلى جدة فى السابع والعشرين من أغسطس، واستقر لمدة شهرين فى جدة فى منزل صديق تاجر هو عبد الله السقاط، حيث تعمق فى أسرار الشريعة الإسلامية، ثم أخيرًا، شد الرحال إلى مكة وهو يلبس الإحرام، مسافرًا سيرًا على قدميه، ووجد الطريق آمنةً وسهلةً.
وصل الحاج موسى، إلى مكة فجرًا، وحين زال الظلام دخل إلى المسجد الحرام يرافقه دليله، وكتب "تخيل منطقة مدورة بطول 300 ذراع وعرض 200 ذراع، تحيط به 3 أو 4 صفوف من أعمدة المرمر، وخلفها مجموعة قليلة من الأبنية الصغيرة، هذا هو مشهد هذا المسجد المقدس، من حوله طبقات، وفوقها التلال، وبذلك تتصور نفسك فى مسرح رومانى مهيب، ميدانه الساحة العظيمة للمسجد، خلف المسجد كله انطباعًا لم أشعر بشئ منه قط فى أى مسجد آخر".
وقضى سيتزن، شهرًا فى مكة، وتعلم على يد أحد علمائها، ثم عاد لجدة، واستغل المدة الفاصلة بين قدومه والحج وزار المدينة النبوية، ثم عاد إلى جدة، ومنها إلى مكة فى الخامس من ذى الحجة سنة 1224 هـ لأداء الحج.
وفى وصف لمشهد الحج، "كان عدد الجمال عظيمًا، كان أكثر من 1000 شخص يطوفون حول الكعبة، وكان أضعفهم بُنيةً معرضًا للموت تحت الأقدام حين يبدأ التدافع لتقبيل الحجر الأسود، كان المسعى غاصًّا بالحجاج من كل الأصقاع"، ويقول: "حمل بعضهم أولادهم على أكتافهم اليسرى، وكان بدوى مصطحبًا زوجتيه يلف ذراعه حول رقبة كل منهما ليمنع انفصالهما عنه فى الزحام".
واستأجر عبد الله السقّاط، بيتًا ضخمًا فى "منى" يوم التروية، ومن شرفته أخذ "سيتزن" يراقب الموكب الذى لا ينتهى نحو عرفات، من الجمال والخيول والبغال والحمير والمشاة، وفى اليوم التالى ركب إلى عرفات، وكانت منحدرات عرفات نصف مغطاة بالحجاج، لكن الحشد العظيم تجمع فى سفحه، كلهم ينظر للجبل، وكلهم يصيح "لبيك اللهم لبيك" حتى الغروب، وفى مزدلفة قضى ليلة باردة، فيما بدت "منى" مملوءة بأشلاء الذبائح فى طريق عودته، وهو ما قال عنه "لقد كات مهرجانًا عظيمًا للحجاج الفقراء".
وأخيرًا مكث الحاج موسى شهرين بمكة بعد انتهاء الحج، واستمر فى إبداء ملحوظاته دونما كلل ولا ملل، وعلى الرغم من أنه لم يكن رسامًا جيّدًا، لكنه استطاع أن يرسم خريطة لمكة وما حولها، وخريطة للمسجد الحرام، مع 16 رسمًا لأجزائه المنفصلة، وخلال تلك الرحلة تذوق "سيتزن" الجراد أول مرة فى مكة ووجده طيب المذاق حين يُقلى بالسمن، حتى إنه تناوله مرارًا بعد ذلك فى اليمن.
وغادر الحاج موسى، مكة فى 18 صفر عام 1225 هـ إلى جدة ومنها إلى الحديدة فى اليمن، وبعدها صعد إلى صنعاء وحامت فيها حوله شكوك وشبهات، إلا أنه نزل بعدها لعدن، ومنها ارتحل إلى مسقط، ومنها للبصرة، لكنه لم يمضى سوى يومين من رحلته هذه عندما اغتيل، ويحوم الغموض حول مصيره هذا، لكن يُعتقد عمومًا أنه دُس له السم بأمر من إمام صنعاء، وذلك بعدما حامت الشبهات حول صدق إسلامه، حيث اعتقد العوام أنه يمارس السحر، وأنه قد تسبب لهم بالقحط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة