لا يوجد مكان أو مرفق أو ثروة تعرضت لكل أنواع وأشكال من الاعتداء والامتهان والتلويث، مثلما نفعل مع نهر النيل، ويصعب على أى شخص طبيعى أن يتخيل كيف يمكن لمواطنين أن يعتدوا على أهم مصادر الحياة لديهم بكل هذه الطرق.
لقد كان من أهم اعترافات المصريين القدماء القول «لم ألوث النيل»، وكان تلويث النيل يدخل فى إطار الخطيئة التى لا تغتفر، لكننا على مدى عقود ارتكبنا كل الجرائم، ولا تتوقف الاعتداءات فقط على صرف السموم الصناعية والصرف الصحى فى النيل، لكن الأمر يتسع ليشمل عمليات ردم متعمدة ومشروعات تلقى بأطنان من المخلفات، وكل هذا تحت سمع وبصر المسؤولين فى المحافظات المختلفة. وأحيانًا بتواطؤ مع المسؤولين عن حماية نهر النيل. وهى مسؤولية مشتركة، لكن النيل كان طوال العقود الأخيرة ضحية لجرائم لا يمكن أن يسمح بها إنسان عاقل مع الأخذ فى الاعتبار أن الثمن فى النهاية يدفعه الجميع من يعتدون على النيل ومن يسهلون لهم جرائمهم ومن يصمتون عليها.
نقول هذا بمناسبة تحرك بعض المسؤولين بالمحافظات بعد صدور تعليمات الرئيس بإزالة التعديات على الجزر النيلية وعلى النهر، وسارع بعض المسؤولين بالمحليات ليتحركوا ويبدأوا الإعلان عن أنشطتهم السريعة لمواجهة التعديات على جزر النيل. كأنهم لم يكونوا يعلمون بهذه التعديات.
الطبيعى أن تتحرك وزارة الرى والجهات المحلية على طول النيل من الجنوب للشمال لإزالة هذه التعديات من دون انتظار تعليمات الرئيس. والطبيعى أن يقوم كل مسؤول بمهام عمله من دون تأخير أو انتظار لتعليمات تصدر له من أعلى، لأن التحرك بالتعليمات يعكس وجود تسيب وإهمال.
التعديات على النيل لا تقتصر فقط على الجزر بالرغم من أهميتها، لكنها تتم بشكل منهجى ومستمر على أراضى طرح النهر، فضلا عن وجود مصانع أسمدة ومبيدات تصب مخلفاتها علنا فى النيل بالدلتا والصعيد، وتتسبب فى نفوق الأسماك، وتحمل مياه النهر السموم للأراضى الزراعية ومعها خطر السرطان والفشل الكلوى وعشرات الأمراض التى نتجت عن التلوث، ومانزال نتذكر الفترات التى أعقبت استعمال مبيدات محرمة عالميا وكيف تسببت فى إصابة عشرات الفلاحين بأمراض خطيرة وأنتجت أجيالا تتزايد بينها نسبة الإصابة بالسرطان.
وبالتالى فإن خطر التلوث لا يقتصر على الفلاح، وإنما على كل السكان ممن يحتكون بالمبيدات ومن يتناولون منتجات زراعية ملوثة وخطرة. والغريب أن كل الأطراف تشكو من المحاصيل الملوثة والخضراوات والفاكهة التى تغيرت أشكالها وطعمها وتصيب من يتناولها بالأمراض.
كل هذا يشير إلى أن خطر الاعتداء على النيل لا يقتصر على فرد، دون آخر لكنها شامل، وبالتالى فإن هناك ضرورة لمواجهة، الاعتداءات الواضحة سواء على مجرى النهر بمشروعات ومبانٍ مخالفة يتم بناؤها بالتواطؤ والرشوة، ومنها مشروعات تزعم أنها تعمل فى السياحة وتصرف المخلفات فى النهر.
لقد انتشرت حالات قلق على نصيب مصر من المياه، بمناسبة سد النهضة والاتجاهات الإثيوبية لإقامة مشروعات على النيل، وهذا القلق يفترض أن يمتد إلى ما يجرى من جرائم على النيل واعتداءات تتسبب فى تسرب المياه وإهدارها، وربما كان الأولى أن يتطور هذا القلق إلى قلق عام على حصتنا من المياه من ناحية الكم، وأيضا من ناحية ضمان نقاء وصحية هذه المياه التى تمثل أهم مصادر الحياة للمصريين.
لقد ظهر بعض المسؤولين ونشروا صورهم وهم يواجهون المخالفات على النيل، لكنهم فعلوا ذلك بعد صدور التعليمات، وما كانوا سوف يتحركون لمواجهة الاعتداءات لو تركوا وحدهم. وهناك مخالفات لمنشآت سياحية وصناعية وفردية مستمرة من قبل أشخاص يبدون أحيانا فوق القانون، وإذا كان هناك جدية يفترض أن تتحرك وزارة الرى والمحليات والبرلمان لإنجاز تشريعات حاسمة لمواجهة أى اعتداء على النيل والمياه.
هناك خرائط واضحة لحالات الاعتداء على النيل بعضها يتم تحت بصر وزارة الرى وغيرها من الجهات المحلية، ولو كانت هذه الجهات جادة فى تنفيذ تعليمات الرئيس لتحركت فورًا لإزالة كل أنواع الاعتداء، وآن الأوان لإصدار شريعات تشدد العقوبات الرادعة على المعتدين والملوثين. وحتى لو تطلب الأمر تركيب أدوات استشعار وكاميرات تتابع أحوال النهر من الجنوب للشمال. والقضية لا تتعلق فقط بالجزر النيلية لكنها تشمل كامل مجرى النهر الذى يحمل الحياة لنا ونحن نحمل له الموت والتلوث والسموم.
لا يمكن تصديق المسؤولين فى دعاياتهم ما لم نشاهد إزالة لكل أشغال أو اعتداء فردى أو من قبل مشروعات سياحية، أو طرح النهر وأن نتعامل مع النيل كخط أحمر مقدس حتى لو تطلب الأمر تركيب كاميرات وأدوات رصد على مجرى النهر، فلا يوجد أهم من المياه نحافظ عليها ولا نسمح لأحد بالعدوان عليها.