من المفترض أن تكون الجامعة ساحة للدراسة وللبحث، ومفرخا للباحثين والعلماء الذين يستطيعون مواصلة البحث العلمي وتحقيق نتائج جيدة وقابلة للنشر وللتطبيق ليتم الاستفادة منها، وليتقدم الوطن.
لقد تأثرت الجامعة، وتخلفت خلال السنوات الماضية وصارت مرتعا للفاشلين والمزوغين والمزورين والباحثين عن طالب يدفع للأستاذ مقابل درس خاص ومقابل أسئلة الامتحان.
وتواصل السقوط، وأهينت الدرجات العلمية، وأهين قدرها وقدر حاملها إلا قليلا، وصار بإمكانك أن تحصل حتى على الدكتوراه بنقودك، وأنت تجلس في بيتك أو في وظيفتك أو في ورشتك، دون أن تحصل شيئا من العلم، ودون أن تعرف شيئا حتى عن بحث الدكتوراه التى حصلت عليها، لأن هناك الأستاذ الذى يعمل مندوب مبيعات لبعض الشركات، وهناك الأستاذ الذى يعمل سمسارا للأراضى، وهناك الأستاذ الذى يبحث عن عمل، وهناك الأستاذ الذى يتطلع إلى بعض المال، وإلى من يدفعون مقابل درجات فارغة لا يعرفون معناها ولا تعنيهم إلا بقدر ما دفعوا ليحصلوا عليها.
ولولا تدفق الآلآف من الضعفاء من بوابة الثانوية العامة المفلسة إلى الجامعة، لما ظهر في الجامعة ما ظهر فيها من أنماط غير مشرفة جرت الجامعة إلى الوراء، والى التقهقر والانحدار في كل شىء.
القيمة البحثية لا يمكن أن تكون مادة للكوميديا ولا لإسعاد العابثين، بل ينبغى أن تصان بكل الطرق، وينبغي أن نربي أنفسنا على احترامها والذود عنها، وعما يتعلق بها من نظم تقيم أودها، وتحفظ عليها حياتها قوية زاهرة، ينبغى أن نسرع إلى إصلاح ما أفسدناه خلال العقود الماضية فى شأن العلم والبحث العلمي اللذين جعلناهما أضحوكة ومثار تنكيت في أفلامنا ومسلسلاتنا الدرامية، بينما هما يشكلان وسيلة تقدم المجتمعات التى يحلم الكثيرون بمجرد السفر إليها، ويحلمون بشراء منتجاتها من كل شىء.
لا يمكن لحملة الشهادات الجامعية أن يجوبوا الشوارع بحثا عن وظيفة فى مقهى بلدى أو إلى جوار سايس يقطع الطريق على الناس، ويفرض عليهم الإتاوات مقابل صف سياراتهم في الشارع، فليس البحث ميزانية مالية فقط، ولكنه عنصر بشرى متقد الفهم والإمكانات، ويمكنه - اذا ما أحسن إعداده – أن يعمل فكره فى احتياجات الدولة حتى التوصل إلى نتائج بحثية سليمة وقيمة وقابلة للتطبيق، ويمكن استثمارها اقتصاديا وعسكريا، وفى غير ذك من المناحى الهامة للوطن، وإلا فمن أين نحصل على الباحثين الباهرين المنتجين للنتائج ؟ وأين نجدهم إذا عجزت الجامعة عن إنتاجهم عن وعي وفي يقظة تامة ؟!
لا بد أن نحترم الجامعة، ونرفع من قدرها عاليا، ونجعل من دخولها أمرا صعبا لا يزلل إلا لمن برع فى علم وأظهر مهارة وقدرة دون غيره، فلا يختلط الغث بالطيب، بل يسقط من سلة الجامعة من عجز عن المواصلة وعن التحصيل، وتزهر الجامعة بالمجيدين فيها .
طالب الجامعة اليوم هو أستاذ الجامعة فى الغد، وهو باحث الغد وعالم الغد، وهى جميعها مسارات جد حيوية ومؤثرة على مسيرة الوطن، وليس على مستقبل أسرة يحلم ربها، بأن يكون ابنه أو ابنته مهندسا، ولو كره الابن أو الابنة الهندسة وكل ما يتعلق بها.
وإذا لم نقف اليوم ونمنع هذه الثانوية، ونقضى عليها كمورد للفاشلين والضعفاء إلى الجامعات المصرية، فسوف تكون عواقب ذلك وخيمة فى المستقبل المتوسط والبعيد، بل وعلى الحاضر، فبدون باحثين وعلماء أجلاء منكبين على البحث، وليس على إجبار الطلبة على طلب درس خصوصى، أو منكبين على سرقة أعمال الغير ليقدموها فى أبحاثهم أو باسمهم، أو عاكفين على صياغة مذكرات الأكشاك التي يلتقطها الطلبة العجزة ليقرأوا عدة عناوين، ويجتازوا امتحاناتهم بلا علم وبلا فهم أو إدراك ، فقد نضطر إلى استيراد أفكار الغير، وإلى استيراد خبراء الغير ومعدات الغير فى كل مجال، ونضطر إلى سداد ما قد ننتج إلى خزينة الغير عاجزين مكشوفين .
ان الوطن لا يقبل أن يكون عاجزا ولا أن يكون مكشوفا ، ولا يقبل أن يتسول حملة الدرجات الجامعية العمل في شوارعه وفي شوارع بلاد أخرى تحترم أو لا تحترم تلك الدرجات وتنزل أصحابها منازل العمالة غير المؤهلة وتقطر عليهم بالمقابل وتمن عليهم بالإقامة، وبالعيش الرخيص.
إن الحياة كد وكبد وليست ركونا ورقصا واستخفافا، وقد سرقنا فى بضعة عقود طويلة فاتنا فيها ومعها كثير . ولكننا – ولله الحمد حقا ولكل الشرفاء العاملين فى جد وفى صمت – ما زلنا بخير ، ولكن المخاطر تزداد كل يوم حولنا ، ومن القريب قبل البعيد، ويخطىء من لا يؤمن بقيمة العلم والبحث العلمي وأثرهما الحاد والحتمى على المجتمع، وعلى حاضره ومستقبله القوى المزدهر الآمن المنتعش اقتصاديا.
حفظ الله مصر دولة مدنية تتساوى فيها الحقوق والواجبات، وحفظ رئيسها ووفقه إلى الخير.