لم يكتف الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى استراتيجيته لاستعادة المكانة الدولية لبلاده، بمجرد تحقيق انتصارات دبلوماسية على خصومه، إنما كان دائما ما يمعن فى إذلالهم، بحيث لا تكون التنازلات التى يقدمونها مجرد نتيجة لمفاوضات، تتعامل فيها موسكو مع المارقين رأسا برأس، وإنما لتكون نتيجة علاقة بين روسيا العائدة لمكانتها كقوى دولية مهيمنة من جانب، وأطراف أخرى تبقى الحلقة الأضعف فى معادلة القوة من جانب آخر، خاصة إذا ما كانت تلك الأطراف تحاول التحليق بعيدا عن المدار الروسى، فى العديد من القضايا الدولية والإقليمية.
ولم تقتصر "لعبة الإذلال" التى يجيد الرئيس الروسى ممارستها تجاه خصومه المتغطرسين، على استخدام نقاط الضعف السياسية لدى الخصوم، وإنما امتدت إلى العديد من الجوانب الأخرى، منها التركيز الجانب الحسى وهو ما بدا واضحا فى سماح مسؤولى الكريملن لكلب الرئيس الضخم بالدخول إلى قاعة الاجتماع التى جمعته بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتى تعانى من فوبيا تجاه رؤية الكلاب، قبل عدة سنوات، خلال زيارة لها إلى موسكو، ربما لتبدو غير متوازنة أمام الكاميرات فى الوقت الذى يظهر فيه "القيصر" الروسى قويا، بينما استخدم الجانب الرمزى أو المعنوى فى مواقف أخرى، منها لقاءه الأول بالرئيس التركى رجب طيب أردوغان، بعد التوتر الذى دام لشهور طويلة، على إثر قيام تركيا بإسقاط طائرة روسية على الأراضى السورية، حيث التقاه فى القاعة اليونانية الملحقة بالقصر القيصرى بمدينة سان بطرسبرج، فى إشارة ضمنية للتوتر الكبير فى العلاقات التركية اليونانية.
بوتين استخدم كلبه لتخويف ميركل أثناء لقاء بينهما فى الكريملن
اتفاق إدلب.. بوتين يقوض حلم أردوغان فى الهيمنة
إلا أن الرئيس الروسى ربما تجاوز مؤخرا الجوانب المعنوية والحسية، فى إذلال خصومه، ليتحول إلى مرحلة جديدة فى "لعبته" المفضلة فى التعامل مع الزعماء المارقين، وهى مرحلة الإذلال السياسى، وهو الأمر الذى برز بوضوح فى لقاءه بالأمس مع أردوغان فى منتجع "سوتشى"، الذى طالما حاول مناطحة القوى العظمى، تحت دعوى إحياء "الخلافة"، حيث بدا الرئيس التركى ضعيفا إلى الحد الذى لا يمكنه خلاله سوى الرضوخ إلى مطالب موسكو التى تقوم فى الأساس على نزع السلاح من الميليشيات الإرهابية المدعومة من أنقرة وتفكيكها، وعلى رأسها جبهة النصرة، التى كثير ما دعمتها تركيا بالمال والسلاح والجهاديين منذ بداية الأزمة السورية، بحلول 10 أكتوبر المقبل.
بوتين خلال لقاءه أمس مع أردوغان
ولعل التوافق التركى الروسى حول هذه القضية كان مستبعدا تماما قبل عدة أشهر، خاصة وأن سياسة أردوغان فى سوريا منذ بداية الأزمة قامت على استلهام التجربة الإيرانية فى لبنان، والتى قامت فى الأساس على توظيف ميليشيات مسلحة ذات أجندة طائفية، لتكون بمثابة ذراع له يمكنه من خلالها زعزعة استقرار المنطقة، لصالح الفوز بمزيد من النفوذ السياسى والإقليمى على حساب القوى الإقليمية الرئيسية فى المنطقة، وبالتالى فإن مثل هذا الاتفاق الذى أبرمه أردوغان مع بوتين، يقوض أحلام "الخليفة" المزعوم فى الهيمنة على مقدرات الشرق الأوسط عبر البوابة السورية.
بين المطرقة والسندان.. بوتين لا ينسى ثأره
يبدو أن الاستراتيجية التى تبناها بوتين لإذلال أردوغان لم تكن وليدة اللحظة، حيث جاءت نتيجة خطة ربما رسمها الرئيس الروسى منذ إقدام تركيا على إسقاط طائرة روسية فى سوريا قبل ما يقرب من ثلاثة سنوات، وهى الخطوة التى تعد بمثابة نقطة تحول كبيرة فى العلاقات التركية الروسية، تلتها بعام واحد خطوة أخرى تمثلت فى اغتيال السفير الروسى السابق فى أنقرة أندريه كارلوف، وهو ما يعكس أن الرئيس الروسى ربما يقبل مهادنة خصومه، وإنما فى واقع الأمر لا ينسى ثأره.
بوتين نجح فى تجريد أردوغان من حلفاءه
فعلى الرغم من أن روسيا قبلت الانفتاح على تركيا بعد تلك الأحداث، من خلال إشراكها فيما يسمى بمباحثات "أستانا"، والتى تشارك فيها إيران، إلا أن المبادرات الروسية نحو أنقرة كانت بمثابة فخ لم يدركه أردوغان، حيث نجح من خلالها تجريد الرئيس التركى من قوته المتمثلة فى دعم حلفاءه فى حلف شمال الأطلسى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، حيث كان التقارب التركى مع موسكو بمثابة المسمار الأول فى نعش العلاقات التركية الأمريكية، والتى شهدت توترات كبيرة فى الأشهر الماضية، إلى أن وصلت إلى ذروتها مؤخرا مع استمرار الرفض التركى لمطالب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بالإفراج عن القس الأمريكى المحتجز بأنقرة أندرو روبنسون، لتصبح تركيا بين مطرقة الولايات المتحدة وسندان بوتين.
كلمة النهاية.. تركيا قد لا تخسر نفوذها فقط
وهنا لم تعد هناك مساحة كبيرة للمناورة لدى الجانب التركى للتعامل مع المطالب الروسية، التى ربما تكتب كلمة النهاية لأى دور منتظر يمكن لأردوغان القيام به فى المرحلة المقبلة على الساحة السورية، إلا أن تداعيات الاتفاق ربما تتجاوز هذا الحد، حيث أنه يقدم دليلا دامغا على النفوذ التركى على الجماعات الإرهابية المتواجدة فى سوريا، ورعاية أنقرة لهم طيلة السنوات الماضية، وهو الأمر الذى من شأنه وضع المزيد من الضغوط على النظام التركى فى المرحلة المقبلة.
يبدو أن تركيا سوف تكون على موعد مع الكثير من الضغوط فى المرحلة المقبلة، خاصة وأن الضربات الدبلوماسية التى تتلقاها أنقرة ففى المرحلة الراهنة، تتزامن مع حالة من الغضب الداخلى جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية فى الداخل على خلفية انهيار الليرة التركية، وهو ما ينذر بأوضاع صعبة تنتظرها تركيا فى الأيام المقبلة حال استمرار السياسات التركية على حالها، خاصة فيما يتعلق بتقديم الدعم العسكرى والمالى للميليشيات المتطرفة لزعزعة استقرار المنطقة لصالح طموحاتها التوسعية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة