«لست سعيداً ولكننى راضى، فحياتى التى عشتها أحببها، لكن حياتى التى أعيشها الآن راضى عنها»، هكذا عبر الفنان الكبير جميل راتب الذى رحل أمس، عن موقفه من الدنيا فى زمن تكالبت عليه أمراض الشيخوخة، وتزاحمت من حوله أقراص الدواء، لكنه مع هذا كان قادرا على الضحك والإضحاك، لا يتردد فى ذكر النكات، تخبرك ملامحه بأنه «جميل» حقا، راضيا مرضيا، فيلسوفا كامنا، له وجه نظر فى الحياة، ويطبقها، له موقف من الصراعات والأزمات والاشتباكات، لكنه لا يحب الدخول فى غمارها، رجل جميل من زمن جميل، جميلا عاش وجميلا مات، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فى حياته كان مستقلا عن التعصبات والانحيازات العمياء، سخر من داخله عندما تساءل الناس عن ديانته حينما كان الإعلان عن الديانة أشبه بإقرارات محاكم التفتيش، رفض ذلك الضغط المجتمعى للإعلان عن الدينا، مؤكدا أن ديانته الإنسان هى سلوكه، رفض أن يتاجر بإعلان ديانته ليكسب جماهيرية هنا أو شعبية هناك، رفض أن يكون مثل الراقصة التى تستعد لجنى «النقوط» بلحم فخذيها بينا الـ«ما شاء الله» تهتز بين نهديها، رفض أن يتحول إلى أحد أفراد القطيع الذين يحملون راية الدين، وهم فى الحقيقة أبعد ما يكونون عن روحه وسماحته وفضائله.
مات جميل راتب وشيعت جنازته من الجامع الأزهر، وعرف الجميع أنه «مسلم»، لكنه كان يعرف الإسلام فى داخله تعريفا خاصا ينبع من نصوص الإسلام ومكارمه، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمسلم هو المسالم المؤمن الراضى، والمسلم هو الجميل العفوف الرحيم الرؤوف، والمسلم هو المجتهد الحالم والمناضل المستكفى، والمسلم هو الشجاع فى وقت يجبن فيه الآخرون، والقابض على مبادئه فى وقت يبيع فيه الآخرون، والمخلص لأحلامه وأحبابه فى الوقت الذى يخون فيه الآخرون، وهكذا هو جميل راتب، وهكذا عاش وهكذا مات.
بموت جميل راتب ماتت قطعة من تلك العبقرية الإنسانية التى تكتفى بإنسانيتها عن تعصباتها وتحيزاتها، رحلت قيمة من قيم الاستقلال النفسى والوجدانى التى لا تخضع لضغط ولا تستجيب لابتزاز، رحلت روح طيبة تكفى خيرها شرها، وتوقن من أن جمالها ينبع من سماحتها فحسب.