تعقد الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم مؤتمرها الثالث بعنوان التجديد فى الفتوى بين النظرية والتطبيق، وتستضيف مصر هذا المؤتمر العالمى فى شهر أكتوبر من كل عام انطلاقا من الشعور بالمسؤولية الدينية والمكانة التاريخية والريادة الحضارية والعلمية التى تتمتع بها مصر عبر التاريخ، وتأتى هذه الفعالية العالمية الهامة استجابة من علماء الأمة الإسلامية إلى صيحات جهات عديدة من العلماء والمفكرين والساسة المنادية بضرورة تجديد الخطاب الدينى المعاصر، بحيث تتجه لغة الخطاب الدينى بخطى أسرع نحو التسامح والتعايش ونبذ العنف، حيث درجت جماعات الإسلام السياسى المتطرفة على تعميم خطاب يدعو إلى الكراهية والصدام والاستعلاء ونبذ الآخر، مما كان له أكبر الأثر السلبى على عقول الشباب ومجريات الأمور التى انجرفت بهؤلاء الشباب نحو العنف والكراهية وتبنى أفكار التكفير والإصغاء إلى ما تروجه جماعات العنف والإرهاب عن طريق مواقع التواصل الاجتماعى.
ومن أخطر الأدوات التى استغلتها هذه الجماعات المتطرفة فى الترويج لأفكارها المنحرفة والزج بالشباب فى أتون هذه الفتن هى وسيلة الفتاوى الشاذة واستباحة الخوض فى أمور الدين لكل من هب من غير المتخصصين ومن ثم كان من الضرورى التصدى بحسم وقوة لظاهرة الجمود فى الفتاوى على ما قاله العلماء الأسلاف فى زمن غير زماننا وواقع غير واقعنا.
لقد قام هؤلاء العلماء بواجب وقتهم لكن فتاواهم وأقوالهم قد تجاوز الواقع كثيرا منها وأصبح تطبيقها والعمل بها فى واقعنا المعاصر لا يخدم الإسلام بل يضره ويشوه صورته، بل أن كل أو جل ما سطره العلماء الأجلاء قديما عن قضايا المرأة والمعاملات المالية والاقتصادية والشؤون السياسية والعلاقات الدولية والقضايا الطبية إذا تمسكنا بتطبيقه حرفيا الآن وقعنا فى الاصطدام مباشرة مع مقاصد الشريعة الإسلامية وكليات القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة نظرا للتطور السريع والتعقيد الشديد الذى يحكم حركة الواقع والحياة.
جاء هذا المؤتمر العالمى الهام كبارقة أمل ليضع حدا لفوضى الفتاوى ولينطلق بصناعة الفتوى نحو مسارات التجديد والاجتهاد الجماعى المعاصر، ويطمح العلماء المشاركون فى هذا الحدث العالمى الهام إلى وضع إطار نظرى محكم لمفهوم التجديد فى الفتوى ووسائله ومجالاته وغاياته يحرر صناعة الفتوى من التقليدية والنصية والجمود الذى تمسكت به جماعات التطرف والإرهاب، وكذلك يحمى الفتوى من التحرر وعدم التقيد بأية ضوابط علمية لممارسة الفتوى حتى نادى بعضهم بأن الإنسان العادى من حقه أن يفهم القرآن والسنة ويستخرج منهما ما شاء من الأحكام مهما كانت مصادمة للإجماع أو المعلوم من الدين بالضرورة.
ويناقش المؤتمر ضمن محاوره قضية الاجتهاد الجماعى وضرورة تفعيله وتحرير الفتوى من الأدلجة الفردية التى يمارسها بعض منتسبى هذه الجماعات عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى.
إن ممارسة الفتوى فى إطار الاجتهاد الجماعى يتيح لعدد مناسب من المتخصصين فى مجالات مختلفة ربما فى مجالات الطب أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع لرسم واقع صحيح لواقعة الفتوى بصورة أدق وأشمل مما يسهل على علماء الشريعة تفعيل القواعد والمقاصد الشرعية للخروج بفتوى دقيقة وصحيحة وأكثر مناسبة للواقع تحقق مقاصد الشريعة الإسلامية وتعين المسلم على التعايش السهل بلا صدام مع الغير وبلا نزاع مع المجتمع.
إننا بأشد الحاجة الآن حقا إلى تفعيل مبدأ مأسسة الفتوى والاعتماد فى إصدار الفتاوى على نظرية الاجتهاد الجماعى الذى يضمن لنا أكبر قدر من التخصصية فى الإفتاء فى العديد من المجالات المعاصر الحديثة، فمثلا لماذا لا نبحث أيضا تخصصية الإفتاء داخل المؤسسة الواحدة، ولم يعد مناسبا أن يقتصر التخصص على القضايا ذات الطابع الشرعى الصرف، بل ينبغى أن تزيد التخصصية وتتعمق فتخصص للفتاوى الطبية يكون لدى ممارسى الإفتاء فيها ثقافة طبية وتأهيل علمى طبى جيد يفهم العالم الشرعى من خلاله وبدقة معنى الموت الإكلينكى وموت جذع الدماغ ومعنى الموت الرحيم والتلقيح الصناعى وبنوك المنى والرحم البديل.. إذا ليس من الجيد أن تعرض على العالم مثل هذه القضايا الدقيقة لبيان حكم الشرع فيها وهو غير متمكن من فهم حقيقتها وصورتها الصحيحة والتصوير الدقيق من أهم مراحل الإفتاء ومثل هذا فقل فى تخصص الإفتاء الاقتصادى والسياسى والاجتماعى والأسرى.... إلخ كل هذا التعمق فى التخصصية يعطى صورة أعمق لمفهوم الاجتهاد الجماعى وينحو بصناعة الإفتاء نحو آفاق أرحب وأوسع من دائرة السؤال والجواب الشفهى البسيط إلى دائرة البحث العلمى الجاد المؤصل بقواعد الشرع وعلوم الواقع.
إن الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم كمؤسسة عالمية طموحة تضم أكثر من ثمانين عالما من خيرة علماء المسلمين لجديرة بالاضطلاع بوضع أساسات ورؤى هذه النظرة الجديدة لوظائف الإفتاء وما يميز عمل الأمانة منذ نشأتها وحتى الآن سرعة المبادرة ووضع الرؤى والخطط الطموحة وجدية التنفيذ والمتابعة وسرعة ودقة الإنجاز وكل هذه العناصر تبعث على التفاؤل فيما سوف تسفر عنه فعاليات هذا المؤتمر العالمى، وتبعث على التفاؤل أيضا فيما تقوم به الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء فى العالم من خطوات فعالة نحو تجديد الخطاب الدينى خاصة فى مجال الإفتاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة