عباس شومان

استحقاق المهر بالخلوة الصحيحة

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
من مظاهر تكريم الإسلام للمرأة واحترامه آدميتها أن أراد لها أن تكون عزيزة كريمة؛ ففرض لها فى سبيل ذلك مهرًا ماليًّا لم يضع حدًّا لنهايته، بل أن على الرجل أن يكد ويسعى لتحصيل هذا المهر وبذله عن طيب نفس وصدق فى طلب استدامة الحياة مع المرأة التى اختارها لتكون زوجًا له، حتى تواطأت أقوال الفقهاء فى أن المهر إبانة لشرف المحل، ولا خلاف بينهم فى أن المهر مستحق للمرأة فى الزواج؛ لقول الله تعالى: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً»، لكنهم اختلفوا فى صفته بين كونه ركنًا من أركان الزواج وكونه شرطًا لصحته، والراجح أنه أثر من آثار عقد الزواج. ولا خلاف بين الفقهاء أيضًا فى أن المهر يجب بالعقد ويستقر بالدخول أو الموت، كما أنه لا خلاف بينهم فى أن الزواج أن انتهى بالطلاق قبل الدخول وجب للمطلقة نصف المهر المتفق عليه بين الطرفين؛ لقول الله تعالى: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ».
 
وثمة خاطرة اجتهادية تتعلق بالخلوة الصحيحة التى هى أحد موجبات المهر التى تحدث عنها الفقهاء، والمقصود بهذه الخلوة تلك الخلوة التى ينفرد فيها المعقود عقدهما فى مكان لا يخشيان فيه اطلاع أحد عليهما لو أرادا الدخول، مع عدم وجود المانع الشرعى من ذلك ككونهما فى نهار رمضان، أو كون المرأة فى حال العذر الشرعى، أو كون الرجل فى حال لا يتصور معها قدرة على الدخول كالمرض الشديد، ففى هذه الأحوال لا تكون الخلوة موجبة للمهر؛ وذلك لتعذر الدخول فيها، أما الخلوة الصحيحة الموجبة للمهر - من وجهة نظرهم - فهى تشبه حال الدخول بالمرأة دخولًا حقيقيًّا. ويسرى العمل بهذه الأحكام إلى وقتنا هذا، فيُحكم بوجوب المهر بالدخول أو الخلوة الصحيحة.
 
وأرى - مجتهدًا - أن الخلوة الصحيحة التى قصدها الفقهاء قديمًا تختلف عن الخلوة فى زماننا؛ فقديمًا لم يكن هناك فاصل من الوقت بين عقد الزواج والدخول كما هو الحال والشأن فى زماننا، فقد كان العقد يتم بمجرد النطق بلفظى الإيجاب والقبول - بأن يقول ولى الفتاة: زوجتك ابنتى أو موكلتى، ويقول الزوج: قبلت زواجها - على مسمع من الشهود، ثم تنتقل الزوجة إلى بيت الزوجية على الفور، أما فى زماننا فهناك إجراءات لم تكن موجودة قديمًا، منها - وهو ما يعنينا هنا - تحديد وقت للعقد وآخر للدخول، وقد يكون وقت الدخول هذا بعد العقد بشهور وربما سنوات.
 
ولا يتصور فى زواج بهذا الشكل الذى كان يتم قديمًا انفراد الزوج بزوجته قبل الدخول سواء فى بيت أبيها أو فى مكان آخر، وإن فُرض تأخر انتقال الزوجة إلى بيت زوجها بعد تمام العقد، فإن الأعراف وقتها لم تكن تسمح بخروج المرأة بصحبة خاطبها أو زوجها الذى عقد عليها، وهذه الحال أشبه بما يتم فى أيامنا فى بعض حالات الزواج؛ حيث يُعقَد فى ليلة الدخول ربما توفيرًا لبعض النفقات بأن يُقتصر على إقامة احتفال واحد بدلًا من احتفالين أحدهما للعقد والآخر للدخول، وربما يكون بقصد تجنب حدوث طلاق قبل الدخول، فيكون تأخير العقد للتأكد من صدق النية فى إتمام الزواج، فإن حدث إنهاء قبل إتمام الزواج كان بفسخ الخطبة لا بالطلاق، ومَن يفعلون ذلك ربما يخصصون احتفالًا للخطبة كاحتفال ليلة العرس، لكنهم مع ذلك يفضلون عدم عقد العقد خشية حدوث طلاق قبل الدخول.
 
وبناء على ذلك، فإننى أعتقد أن الخلوة التى تحدث عنها الفقهاء قديمًا كانت بمعنى انتقال الزوجة إلى بيت الزوجية بعد انتهاء مراسم الزواج وعدم امتناع أحدهما عن الآخر، ومن ثم فإنه من الملائم اعتبار هذه الخلوة فى حكم الدخول؛ لأن الزوجة سلمت نفسها للزوج ووُجدت نية الدخول لدى الطرفين وإن أخره مانع نفسى أو نحوه، فيكون لها المهر عندئذ سواء دخل بها بالفعل أو لا، لكن الخلوة التى تحدث فى زماننا بعد العقد - ربما بتسامح من ولى المرأة - قد تحدث فى بيت ولى المرأة أو فى غيره من أماكن لا يتصور فيها قدرة على الدخول، بل قد لا يجول ببال أحدهما التفكير فى ذلك أصلًا.
 
والخلوة بين المعقود عقدهما ليست حرامًا شرعًا، فإذا لم يقع فيها دخول - وهو الغالب؛ لأن العرف يستقبح ذلك، فضلًا عن مظنة عدم تفكير الطرفين فيه أصلًا - فإننى أرى أنه لا وجه لوجوب المهر بهذه الخلوة؛ لأن المهر يجب بالدخول بنص قول الله تعالى: «وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ». وعليه، فإنه أن أُلحق بالدخول الخلوة التى فى معناه - أى الخلوة التى سلمت فيها الزوجة نفسها لزوجها ولم يوجد مانع من الدخول - فلا وجه لأن يُلحق بالدخول خلوة لا علاقة لها به مما يحدث فى زماننا، فقد تكون خلوة خلاف وتنازع بينهما على بعض ترتيبات العرس. كما أن القول بوجوب المهر كاملًا بخلوة لم يرد ببال الطرفين الدخول خلالها أصلًا، يجعل مجرد انفراد المعقود عقدهما - المباح شرعًا فى ظروف لا يتصور معها دخول - موجبًا لعقاب الزوج بنصف المهر الزائد على النصف الواجب أن وقع طلاق قبل الدخول.
 
ومن يتأمل قول الله تعالى: «وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ»، يجد أن الآية الكريمة قد جعلت للمطلقة قبل الدخول نصف المهر ولم تشترط عدم الخلوة، والطلاق قبل المس (الدخول) قد يكون لامرأة اختلى بها زوجها، وقد يكون لامرأة لم يُختلَ بها، مما يؤكد أن إيجاب المهر بالخلوة الصحيحة اجتهاد من الفقهاء ناسب زمانهم؛ حيث كانت الخلوة فى بيت الزوجية بعلم الجميع وبعد انتهاء مراسم حفل الزواج، وهذا يخالف الخلوة فى زماننا، مما يجعل إلحاق خلوة زماننا بين المعقود عقدهما - على نحو ما ذكرنا - بالخلوة التى قصدها الفقهاء محل نظر.
 
ويؤيد ما نراه أن هناك فقهاء قدامى لم يُلحقوا الخلوة التى كانت فى زمانهم بالدخول الحقيقى، فعندهم أن المهر الكامل يجب بالدخول فقط، وهو ما ذهب إليه الإمام مالك فى قول، والإمام الشافعى فى الجديد، وروى عن بعض السلف أيضًا. فإذا كانت الخلوة بشكل عام محل خلاف بين الفقهاء، مع اختلاف حال الخلوة التى كانت فى أيام السلف عن الخلوة فى زماننا؛ فإن ذلك يجعل وجوب المهر كاملًا بخلوة زماننا أكثر ضعفًا، وعندئذ يكون من الأولى معاودة اجتهاد العلماء فى وجوب المهر بها.
 
وما تطمئن إليه النفس بعد النظر فى الأدلة ودراسة الواقع هو عدم وجوب المهر الكامل بالخلوة بين المعقود عقدهما، وإنما يجب المهر بالدخول فقط. ولا مانع شرعًا من تغيير ما درج عليه العمل فى الفتوى وما هو منصوص عليه فى القوانين، وإصدار حكم جديد تُغيَّر على أساسه الفتوى وتُعدَّل به القوانين، ولا سيما مع غلاء المهور فى زماننا، وتغير العادات والتقاليد بتغير العصور والثقافات، فكثرت الخلوات بين المعقود قرانهما، بل بين المخطوبين وإن كانت الخلوة حرامًا بالنسبة للمخطوبين. كما أن القول بوجوب المهر كاملًا بالخلوة التى تحدث فى زماننا يوقع عنتًا شديدًا على الزوج إذا وقع طلاق قبل الدخول، ويوقع كذلك خلافًا وشقاقًا بين الطرفين اللذين قد يكونان من عائلة واحدة، مما يتسبب فى ضياع المعروف بينهما الذى هو مطلوب شرعًا حتى بعد الطلاق؛ لقول الله تعالى: «وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ».









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة