منذ فجر الـ31 من يوليو الذى صعدت فيه روح الأنبا ابيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار للسماء، انفتحت فى الكنيسة أبوابًا كثيرة، انكشفت أغطية، وظهرت عداوات كانت مكتومة وتيارات متصارعة لتتصدر المشهد وتصبح حديث الرأى العام المصرى، وكأنها رواية بوليسية تنشر فصولها رويدًا رويدًا بتسلسل زمنى مدهش، يعيدنا دائما إلى الوراء ربما إلى ما قبل ليلة القتل الغامضة بسنوات كثيرة فالتاريخ فى الكنيسة يصنع المستقبل، والماضى جزء أصيل من الحاضر بل ويحكم حسابات المستقبل.
فى فصل جديد من رواية القتل بين أسوار دير الأنبا مقار، أعلنت الكنيسة اليوم، الأربعاء، وفاة "زينون المقارى" بشكل غامض فى قلايتة (سكن الراهب) بعدما تم نقله من ديره بوادى النطرون إلى الدير المحرق فى الصعيد، وكأن لعنة حادث قتل الأنبا ابيفانيوس تطارد من اختلفوا معه فى كل مكان وفى أى وقت.
زينون الذى توفى فجر الأربعاء فى غرفته بالدير المحرق بأسيوط بعدما شكا آلاما مبرحة بالبطن، كان يطبق قرارا من لجنة الأديرة بالمجمع المقدس، التى قررت نقله خارج دير أبو مقار بالنطرون بعدما كان جزءا من جبهة اعتادت إثارة المشكلات مع رئيس الدير المقتول.
ما حكاية زينون المقارى الذى توفى بشكل غامض؟
الراهب زينون المقارى اسمه بالميلاد فريد شحات فهيم فرج الله من مواليد الجيزة فى 1 مارس عام 1975 وهو حاصل على ليسانس آداب قسم لغة فرنسية، وانضم لدير القديس الأنبا مقار بوادى النطرون عام 2006 وهو العام الذى توفى فيه القمص متى المسكين، وخدم "زينون" فى مضيفة الدير ثم فى المخبز، ثم عمل كمترجم للسياح زوار الدير خاصة عن اللغة الفرنسية، وتم تكليفه بالكتابة عن دير أبو مقار باللغة الفرنسية حيث يهتم دير أبو مقار بالتواجد الدولى فى المحافل البحثية اللاهوتية.ِ
لماذا رقى البابا شنودة الراهب زينون لدرجة قس ؟
فى فبراير 2010 ترقى زينون لدرجة القس حيث قرر البابا شنودة منحه درجة الكهنوت مع عشرة آخر ين وذلك فى أعقاب سيطرة على الدير وإعادته لسطوة الكنيسة مرة آخر ى عقب وفاة القمص متى المسكين الأب الروحى لرهبان الدير، حيث كان الدير مستقلا بشكل إدارى عن الكنيسة القبطية وتدار فيه الحياة الرهبانية بواسطة القمص متى المسكين صاحب الخلافات التاريخية مع البابا شنودة.
من بين من حصلوا على نفس درجة الكهنوت "قس" مع زينون المقارى، الراهب القس يعقوب المقارى الذى ترك دير الأنبا مقار وأسس دير الأنبا كاراس واستولى عليه وأصدرت الكنيسة قرارا بتجريده من رهبانيته وشلحه بعد فشل محاولات استتابته وإعادته لها.
ماذا قال البابا شنودة لرهبان أبو مقار الذين رقاهم كقساوسة؟
فى فيديو يظهر فيه الراهب زينون وهو يتقلد درجة القسيسية فى صلوات كنسية معروفة باسم "طقس رسامة كاهن"، يعظ البابا شنودة فى الرهبان ويبرر الأسباب التى دفعته لرسامة كهنة فى دير الأنبا مقار فيقول «من ضمن الأسباب اللّى خلتنى أرسم كهنة فى دير أبو مقار، أن إحنا نستخدم الكنائس والمذابح الموجودة فى الدير، مش أصول يبقى عندنا كل هذه الكنائس ومش لاقية حد يصلّى عليها، هنعمل جدول للصلاة فى الكنائس دي»، كان حديث البابا محاولة لتفسير سبب إقدامه على تلك الخطوة، حيث كان رهبان دير الأنبا مقار يمتنعون عن المناصب الكنسية ولا يحبونها ولا يقربوها، فيقول الأنبا ابيفانيوس عن ذلك "كنا عايشين فرحانين ومبسوطين من غير كهنوت أو مناصب ثم اشتعلت الحرب بسبب الكهنوت".
وكان زينون ينتمى لجبهة الرهبان الشنوديين، الذين اعتادوا افتعال المشاكل مع رئيس الدير المقتول الأنبا ابيفانيوس، حيث تنقسم خريطة دير الأنبا مقار لفريقين الأول من تلاميذ القمص متى المسكين، والثانى من رهبان يميلون لمدرسة البابا شنودة الثالث الرهبانية.
حكاية ندب زينون المقارى للخدمة فى باريس؟
فى العام 2017 تم ندب الراهب القس زينون المقارى للخدمة فى باريس، حيث كان يصلى فى كنيسة مارمينا وأبو سيفين بكولومب تحت إشراف الأنبا مارك أسقف باريس، ونظرا لندرة من يجيدون اللغة الفرنسية فى الكنيسة القبطية، فإن الكاتدرائية تنتدب من وقت لأخر رهبان يجيدون لغة الدولة المكلفين بالخدمة فيها أو كهنة حتى يتسنى لهم الصلاة باللغتين العربية والفرنسية.
خدم زينون فى الكنيسة القبطية بفرنسا فترة قصيرة مستغلا طلاقته فى اللغة واهتم بخدمة الأطفال الذين لا يعرفون العربية ولا ينطقون بها ثم قرر لعودة لدير القديس الأنبا مقار دون أن يتم الإعلان عن الأسباب.
وقال الأنبا مارك فى فيديو يظهر فيه حفل توديعه بالكنيسة أن القس زينون تمتع بأخلاق رفيعة وتفانى فى الخدمة ولكنه اشتاق للعودة لديره قبل أن تنتهى فترة تجربته هنا، ثم قال زينون فى الفيديو نفسه أنه عائد إلى مصر بكامل إرادته ولم يحدث أى خلافات بينه وبين الأنبا مارك الذى يشاركه الصلاة داعيا الجميع لمسامحته والغفران له أن أخطأ وزيارته بدير الأنبا مقار حين يعودون لمصر فى أى إجازات.
لماذا ظهر اسم زينون المقارى مرة آخرى فى مستند كنسى؟
فى فبراير 2018 يظهر اسم زينون مرة آخر ى فى مستند كنسي، وتحديدا فى الخطاب الذى يخص "إشعياء المقارى" المتهم بقتل الأنبا ابيفانيوس، حيث نشر الخطاب فى أحد المواقع الإلكترونية التى تدار من التيار المعادى للبابا، الخطاب كان توقيعات لـ45 راهبًا يطلبون من الأنبا ابيفانيوس الصفح عن "إشعياء المقارى" بعد صدور قرار باباوى بنقله لدير الزيتونة بالعبور فى أعقاب التحقيق معه من لجنة باباوية.
هناك من يروى أن زينون المقارى كان من بين من تدخلوا للصفح عن "إشعياء" لدى الأنبا ابيفانيوس من أجل تهدئة الأجواء خاصة وإن "زينون" راهب قس بينما إشعياء مجرد راهب فقط، فإن النظام الكنسى يسمح لزينون أن يصلى ويرأس القداس بل ويستمع لاعترافات الأخرين ضمن سر الاعتراف الكنسى ومن ثم قيل أن القس زينون كان أب اعتراف الراهب إشعياء المقارى.
فى أوراق التحقيقات.. زينون عضوا بجروب الواتس أب مع الجبهة المعارضة
ضمن أوراق التحقيقات فى قضية مقتل الأنبا ابيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار، ذكر الراهب فلتاؤس المقارى المتهم الثانى فى القضية اسم الراهب زينون وقال أنه كان من بين الرهبان الأعضاء فى جروب على "واتس أب" ضمه مع 17 آخرين.
كيف تصرف البابا تواضروس إزاء زينون المقارى بعد حادث الأنبا ابيفانيوس؟
حاول البابا تواضروس إصلاح ما أفسده الزمن فى دير الأنبا مقار الذى تحول مع التحزبات والصراعات الداخلية إلى ساحة حرب، لم يستطع الأسقف المغدور الأنبا إبيفانيوس السيطرة عليه بوداعته وطيبته إذ لم تسمح له طبيعته كباحث متعمق وراهب حقيقى الانخراط فى مثل هذه الأحداث الجارية حوله، فقد كان دائم النصح للرهبان يطلب منهم الابتعاد عن شهوات الحياة وهمزات الشياطين يستنكر رغبات الرهبان فى الاستحواذ على المناصب والترقية للكهنوت ويرى أنها شهوة فانية وحرب أن عرفت طريقها للرهبنة ضاع معنى الفقر الاختيارى والموت عن العالم من أجل البحث عن الله.
شكل مقتل الأنبا ابيفانيوس نقطة تحول فى طريقة تعامل البابا تواضروس مع هذا الملف، فقد ظهر غاضبا فى جنازته يودعه بالبكاء والنحيب وهو صديقه ومستشاره وأخيه الذى يثق فيه، ثم تلا ذلك صدور قرارات من اللجنة المجمعية للأديرة والرهبنة عرفت باسم القرارات الـ12 لضبط الرهبنة، جاء أولها بتحديد عدد الرهبان فى كل دير من أجل استقرار الحياة الرهبانية فيه.
لماذا هاجموا البابا تواضروس بعد نقل الرهبان رغم أن القرار صحيح كنسيا؟
حمل التعبير تحديد عدد الرهبان فى كل دير واستقرار الحياة الرهبانية دلالات لحركة انتقالات بين الأديرة، فى عرف الكنيسة يعتبر نقل الراهب من ديره الذى اختاره وحمل اسمه وعاش فيه نوعا من العقوبة أن لم يكن هذا النقل له علاقة برغبة الراهب الشخصية أو يرتبط بإشرافه الإدارى على مهمة محددة، النقل خارج الدير الأصلى يشبه النفى عن الوطن، وقد تمتد العقوبة من سنة أو سنتين وقد تصل إلى مدى الحياة، شريطة أن يلتزم الراهب ويعود لحياة الطاعة أساس الرهبنة الأول ونذرها، أما فى حالة عدم التزامه يقدم فيه رئيس الدير الذى انتقل له تقريرا يفيد بعدم التزامه ويكشف عن سلوكياته وقد ينتهى به الأمر إلى خارج حياة الكنيسة، مجردا من اسمه الكنسى عائدا لحياته ما قبل الرهبنة وكأن كل ما قطعه من أشواط فى طريقه إلى الله لم تكن، هكذا هى حياة الرهبنة كما توارثتها الكنيسة القبطية ومخطوطاتها وتقاليدها الأصيلة، الرهبنة هى كنز الكنيسة فإن ضاعت خابت المساعى وضاع مستقبل.
البابا تواضروس قرر إصلاح الرهبنة وإعادتها لحياة الانضباط مرة آخرى واثقا فى قدرة الكنيسة الكبيرة على رأب أى صدع ومواجهة أى أزمة بعدما مرت بآلاف المشاكل والأزمات عبر التاريخ متمسكة بقوتها ووحدتها وتماسكها الذى تروى عنه القصص والمرويات، كنيسة عمرها ألفى سنة لن يهزها حادث، هى كنيسة الله ووديعته.
بموجب قرار البابا تواضروس انتقل "زينون" إلى الدير المحرق بمركز القوصية بمحافظة أسيوط، دير آخر ذو طبيعة مختلفة، أديرة الصعيد لا تشبه أديرة الوجه البحرى فلكل شيخ طريقته ولكل صحراء شيوخها، فى الدير الذى شهد بناء أول مذبح لكنيسة على أرض مصر ذهب "زينون"، الذى شهد له زملائه بالهدوء وتقبل القرار ولكنه كان منعزلا حتى يألف حياته الجديدة مع أخوته الرهبان الجدد.
كيف عادت حملات الهجوم على البابا تواضروس بشكل أعنف؟
هناك من يريد أن يحمل البابا تبعات الوفاة الغامضة للراهب رغم أن البابا تواضروس كان محقا حين قرر إبعاد كل من له علاقة بالقضية عن مسرح الأحداث حتى يعود لدير الأنبا مقار هدوئه وصفائه مرة آخرى، لم يخطئ البابا حين أراد إصلاح الرهبنة القبطية وإعادتها لمسارها الصحيح ولكن بعض الأطراف تحاول تحميله تبعات قراراته الإصلاحية التى لا بد وأن تهدد مصالح اقتصادية وتحالفات داخل الكنيسة، فتسعى تلك الأحزاب المتضررة من الإصلاح للتمترس ضد البابا وتهييج الرأى العام القبطى ضده، وهو رأس الكنيسة الأكبر والمسئول الأول عنها فى أداء منظم وممنهج على طريقة المؤامرات، دون النظر إلى أن كل ما يحدث يضر بالكنيسة نفسها.
قضية الوفاة الغامضة وعدم استقرار الكنيسة على سبب حقيقى لها، دفعها تأخذ بأيسر الأسباب وتقرر الصلاة على الراهب القس زينون فى ديره الأنبا مقار بوادى النطرون، ولكن عدم تبين أسباب الوفاة فى بادئ الأمر أدى للصلاة عليه فى قداس عيد الصليب اليوم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة