"المصالحة" مع العالم الإسلامى كان الشعار الذى تبناه الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، مع إنطلاقة حقبته فى عام 2009، حيث اختار القاهرة ليلقى منها خطابه الشهير، لتحقيق هذا الهدف، بينما كان يحمل فى طياته بذور الفوضى فى منطقة الشرق الأوسط، عبر تلك الصفقة التى أبرمتها الإدارة الأمريكية السابقة مع جماعات "الإرهاب" السياسى، والتى قامت على تمكينهم من السلطة فى دول المنطقة مقابل تنفيذ الأجندة الأمريكية القائمة على تقسيم الدول العربية فيما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد"، وهى الصفقة التى ظهرت بوضوح فى أعقاب ما يسمى بـ"ثورات الربيع العربى"، والتى فتحت الباب أمام التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها جماعة الإخوان، من الوصول إلى السلطة فى مصر ودولا عربية أخرى بدعم من واشنطن وحلفائها الجدد فى المنطقة وأهمهم قطر وتركيا.
إلا أن سياسات الإدارة الأمريكية السابقة كانت السبب الرئيسى فى خسارة الولايات المتحدة لثقة قطاع كبير من حلفائها فى منطقة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذى سعى الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى إصلاحه منذ وصوله إلى البيت الأبيض، قبل ما يقرب من عامين، حيث اتجه نحو استعادة حلفاء بلاده التقليديين فى المنطقة، وعلى رأسهم مصر والسعودية، وهو ما بدا واضحا فى زيارته للمملكة العربية السعودية فى أول جولاته الخارجية بعد توليه منصبه، ولقاءاته المتعددة مع الرئيس عبد الفتاح السيسى، والتى أظهرت رغبة أمريكية حقيقية فى إصلاح ما أفسده أوباما.
رسالة أمريكا.. أوباما أخطأ فى قراءة التاريخ
ولعل الزيارة التى يقوم بها حاليا وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو إلى القاهرة، تمثل امتدادا صريحا لمحاولات واشنطن لاستعادة علاقتها مع مصر فى المرحلة الراهنة، خاصة وأنها تجاوزت النطاق المعهود لمثل هذه الزيارات، حيث أصبحت القاهرة بمثابة المنصة التى أطلق منها وزير الخارجية الأمريكى رسالة بلاده إلى مختلف دول المنطقة، خاصة بعد حالة الجدل التى سادت مختلف الأوساط الدولية فى أعقاب القرار الأمريكى بالانسحاب من سوريا، فى إشارة ضمنية إلى عمق العلاقة الاستراتيجية التى تجمع بين البلدين.
خطاب أوباما من جامعة القاهرة قبل عشرة سنوات
ولم يكتف بومبيو بمجرد التعبير عن موقف بلاده من قضايا المنطقة، وإنما ألقى سهام الانتقاد إلى الرئيس السابق باراك أوباما، متناولا الخطاب الذى ألقاه بجامعة القاهرة، خاصة فيما يتعلق برؤيته حول الإرهاب والجماعات المتطرفة التى سعت الإدارة السابقة إلى التصالح معها، حيث اعتبر بومبيو فى خطابه، اليوم الخميس بالجامعة الأمريكية، أن قيادة الولايات المتحدة السابقة أخطأت فى قراءة التاريخ، مما ترك تداعيات سلبية عميقة على حياة مئات الملايين سواء فى مصر أو الدول العربية الأخرى.
اعتذار صريح.. مصالحة أمريكية جديدة مع العالم الإسلامى من القاهرة
هنا يصبح حديث بومبيو بمثابة اعتذارا صريحا عن سياسات أوباما، والتى ساهمت بصورة كبيرة فى إثارة الفوضى والانقسام داخل العديد من الدول العربية والإسلامية لسنوات طويلة، إلا أنه يطرح التساؤلات حول ما إذا كان مثل هذا الخطاب يمثل محاولة جديدة لتحقيق "المصالحة" مع العالم الإسلامى، بعدما فشلت الإدارة السابقة فى تحقيق ذلك خلال سنوات وجودها الثمانية فى صدارة المشهد الأمريكى.
شكرى يصافح بومبيو
فعلى الرغم من شعار "المصالحة" الذى رفعه أوباما أثناء خطابه الذى ألقاه من جامعة القاهرة فى يونيو 2009، إلا أنه لم يخلو من تلك الانتقادات التى اعتاد أسلافه إطلاقها، وعلى رأسها اضطهاد الأقليات، والتى كانت بمثابة المدخل للتدخل الأمريكى فى الشئون الداخلية للدول العربية، ولكن يبدو أن الرئيس الأمريكى السابق سعى إلى توسيع نطاق الأقليات فى المجتمعات العربية، بحيث لا تقتصر على الأقليات الدينية بينما تمتد إلى الجماعات الإرهابية، والتى سعى أوباما إلى دعمها طيلة سنوات وجوده فى البيت الأبيض، فى إطار خطته لإثارة الإنقسام المجتمعى داخل المجتمعات العربية، لتنفيذ الصفقة سالفة الذكر.
المصالحة المنشودة.. إدارة ترامب تدحض "رواية" الأقليات الدينية
يبدو أن الخطاب ليس كافيا لتحقيق المصالحة المنشودة، بعد سنوات الجفاء بين مصر والولايات المتحدة، فلم يقتصر نطاق الزيارة على مجرد تصريحات تخطب ود الإدارة المصرية، وإنما امتدت إلى دحض "رواية" الأقليات الدينية فى مصر، والتى تبنتها الحكومات الأمريكية السابقة كذريعة للتدخل فى الشئون الداخلية لمصر، عبر الزيارة التى قام بهام ايك بومبيو إلى كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية الجديدة، ربما ليلقى الضوء على الخطوات التى اتخذتها مصر لتحقيق الوحدة بين أبناء المجتمع بعد سنوات قليلة من الانقسام الذى وضعت بذوره الإدارة الأمريكية السابقة عبر تمكين جماعة الإخوان الإرهابية من السلطة.
كاتدرائية ميلاد المسيح
الزيارة التى أجراها بومبيو إلى كاتدرائية ميلاد المسيح تمثل امتدادا صريحا للتغريدة التى أطلقها الرئيس ترامب أثناء مراسم افتتاح مسجد الفتاح العليم والكاتدرائية، والتى تعد الأكبر فى الشرق الأوسط، حيث اعتبر أنها بمثابة دليلا دامغا على نجاح الرئيس السيسى فى قيادة بلاده نحو مستقبل أكثر اتساعا للجميع.
وهنا يمكننا القول أن اللهجة الأمريكية تحمل تغييرا كبيرا، لا يقتصر على مجرد استرضاء الحكومة المصرية فى سبيل استعادة العلاقات الوثيقة، أو حتى الاعتذار عن أخطاء الإدارات السابقة، وإنما أيضا التركيز على الإيجابيات وإلقاء الضوء عليها بعد سنوات من التجاهل، بفضل حالة الغضب التى انتابت الإدارة السابقة جراء عزل حلفاءها الإرهابيين من السلطة فى أعقاب ثورة 30 يونيو، والتى جاءت لتقوض كافة خطط واشنطن لإعادة تشكيل المنطقة بأثرها.