فى بداية التسعينيات من القرن العشرين، وبعد سقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى والمعسكر الشيوعى، بدأت أفكار منظرى الرأسمالية فى إعلان نهاية عصر الأيديولوجيات وسيادة الرأسمالية الغربية، خاصة فى نموذجها الأمريكى، وأعلن فرانسيس فوكوياما فى كتابه «نهاية التاريخ» انتصار الأيديولوجية الليبرالية على غريمتها الاشتراكية، وموت الأيديولوجيات وانتهاء الصراع، ووجد الأمر تأييدا من منظرى الرأسمالية، خاصة أن الاتحاد السوفيتى كان واقعا فى ارتباك ما بعد الإمبراطورية، بينما الصين وقوى العولمة الاقتصادية كانت ماتزال فى مراحل التشكل.
ووجدت فكرة الإمبراطورية تأييدا فى أعقاب تدخل الولايات المتحدة لقيادة تحالف لتحرير الكويت من احتلال العراق، وبعد 11 سبتمبر 2001 تسلم بوش الابن رسائل اليمين ليبدأ فى توسيع التدخل الأمريكى فى العراق وأفغانستان وتوسيع القواعد العسكرية الأمريكية، وفى المقابل حققت الشركات الأمريكية أرباحا ضخمة من تجارة السلاح ومن التدخل فى العراق وأفغانستان.
ولهذا يبدو حديث الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن سحب القوات الأمريكية من سوريا والعراق وأفغانستان، مناقضا لسياسات أمريكية استقرت لعقود، وتواجه معارضة من أطراف أمريكية وتشكيكا من قبل المحللين والمراقبين، الذين يتساءلون: كيف يمكن أن تتخلى الولايات المتحدة عن دور القوة العظمى الذى تشغله منذ مابعد الحرب الثانية، ومنفردة منذ منتصف التسعينيات من القرن العشرين. وهل يمكن أن يكون ترامب صادقا فى قوله: «لا نريد لأمريكا أن تلعب دور شرطى العالم بعد الآن.. من المحزن جدا عندما تنفق 7 تريليونات دولار» في الشرق الأوسط.
هناك تشكيك فى أن تكون الولايات المتحدة أنفقت تريليونات، بينما كانت تربح من هذه الحروب والصراعات بوصفها أكبر تاجر سلاح فى العالم، ثم إن غزو العراق كان مصدرا لأرباح حققتها الشركات الأمريكية فى مقاولات الهدم والبناء.
بعض الديمقراطيين يتهمون ترامب بأنه ينفذ استراتيجية سحب القوة الأمريكية وتخفيض النفوذ، لصالح روسيا والصين، وهو ما يؤيد وجهات نظر الديمقراطيين فى أن ترامب جاء بتدخلات روسية، بهدف تقليل قوة أمريكا، وتصفية عدد من القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة فى أرجاء العالم، ما تزال تصريحات ترامب تواجه الكثير من المقاومة من قبل من يؤمن بالإمبراطورية الأمريكية.
ووصل الأمر لأن يهاجم المرشح الجمهورى السابق للرئاسة الأمريكية ميت رومنى ترامب، قائلا: «سلوك ترامب دليل على أن الرئيس لم يرق إلى منزلة المنصب»، ورد ترامب كعادته ساخرا من رومنى: «فزت فوزا كبيرا، بينما خسر ميت أمام باراك أوباما».
ترامب يدافع عن وجهة نظره بسحب القوات الأمريكية وتصفية القواعد الأمريكية فى أنحاء العالم، ويستند لمطالب قطاعات من النخب الأمريكية خاصة الجمهوريين المؤيدين له ومنهم مستشاره السابق فى البيت الأبيض، سيبستيان جوركا وكتابه «لماذا نقاتل»، الذى صدر الصيف الماضى. ويصر ترامب على القول «لا يمكن أن نبقى فى حروب لا نهاية لها إلى الأبد».
معارضو الانسحاب يرون أن ترامب يجهل أن أمريكا أصبحت قوة عظمى مطلقة، لأنها تمتلك أقوى جيش فى العالم، وأكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم «بينما فرنسا وبريطانيا وروسيا تمتلك مجتمعة 23 قاعدة عسكرية فقط خارج أراضيها»، بجانب اقتصاد هو الأقوى فى العالم طوال نصف قرن.
سياسات ترامب تمثل قطاعا من الأمريكيين يرون أن موازين القوة تغيرت بناء على التحولات الاقتصادية والعولمة، وأصبحت تميل لصالح الصين وروسيا، وأن القوة لم تعد عسكرية فقط، ولهذا فإن الولايات المتحدة يمكنها أن توفر المليارات التى تنفقها على القواعد العسكرية، وتركز أكثر من دعم المنافسة الاقتصادية وتطوير صناعاتها ومنافسة الصين تجاريا.
الرئيس الأمريكى يرد على من يطلبون عزله قائلا: «كيف يمكن عزل رئيس فاز بأعظم انتخابات.. وأكثر الجمهوريين شعبية فى تاريخ الحزب بنسبة %93».
وخلف هذا الجدل الظاهر، هناك بالفعل وجهات نظر ترسمها التحولات الاقتصادية والعوالمية الجديدة، تجتاح العالم بما فيه أوربا وأيضا فإن هناك خطوط للمصالح الأمريكية لا يمكن لأى رئيس أن يتخطاها، وترامب يواجه أغلبية ديمقراطية فى الكونجرس، وحتى داخل الجمهوريين، فضلا عن «لوبيات» المصالح التى تتأثر وتؤثر بأى قرار عسكرى أو اقتصادى، وهو ما يجعل الولايات المتحدة فى اختبار آخر لنظريات نهاية التاريخ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة