"العمالة لموسكو" تمثل أحد العناوين الهامة التى هيمنت على حقبة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب منذ بدايتها، قبل عامين، ربما بسبب خطابه الانتخابى الذى أشاد خلاله بسياسات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بالإضافة إلى سياساته التى تبناها بعد دخوله إلى البيت الأبيض، والتى قامت على التنسيق مع روسيا فى مختلف القضايا الدولية، وهو الأمر الذى يبدو غريبا على الخط الذى سار عليه أسلافه لعقود طويلة من الزمن فى ظل الخصومة التاريخية بين البلدين، منذ الحرب الباردة.
إلا أن المفارقة الجديرة بالملاحظة تتمثل فى التباين الواضح فى حدة الاتهامات التى تواجه الرئيس ترامب فيما يتعلق بعلاقته مع موسكو، صعودا أو هبوطا، وارتباطها إلى حد كبير مع تطورات الأوضاع، ليس على المستوى الدولى، ولكن فى الداخل الأمريكى، وهو ما يثير التساؤلات حول ما إذا كان الاتهام بـ"العمالة" أصبح بمثابة أداة الخصوم السياسيين للإدارة الحالية فى الداخل الأمريكى، وعلى رأسهم المنتمين للحزب الديمقراطى، لإدارة أزماتهم وصراعاتهم مع البيت الأبيض، فى ظل فشلهم فى الوصول إلى قدر من التوافق معه حول القضايا الخلافية التى تهيمن على المشهد السياسى فى الولايات المتحدة.
سياسات ترامب.. محاولة ديمقراطية لاستدعاء "شبح" جورباتشوف
وعلى الرغم من أن اتهام رئيس الولايات المتحدة بـ"العمالة" يبدو أمرا غير مسبوق فى الداخل الأمريكى، إلا أن مثل هذا الحديث ربما يجد بعض الشواهد التى قد تدعمه أمام المواطن الأمريكى، أبرزها السياسات التى يتبناها ترامب، ليس فقط المرتبطة بالعلاقة المباشرة بين واشنطن وموسكو، ولكنها تمتد إلى علاقته بحلفاء أمريكا التاريخيين، وعلى رأسهم دول المعسكر الغربى، والتى شهدت توترا غير مسبوق، بالإضافة إلى قراراته المتواترة بالانسحاب من العديد من المنظمات والاتفاقيات التى طالما اتخذتها الولايات المتحدة وحلفائها لشرعنة خطواتها السياسية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، وكذلك موقفه من مبادئ العولمة وغيرها، وهى السياسات التى تصب فى مجملها فى صالح عودة "الدب الروسى" إلى استعادة نفوذه.
ميخائيل جورباتشوف
ولعل الاتهامات بالعمالة التى يواجهها الرئيس ترامب تمثل فى جوهرها محاولة من قبل خصومه الديمقراطيين، لاستدعاء شبح آخر رؤساء الاتحاد السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، والذى أنهى الحرب الباردة فى عام 1991، لتتفكك بعد ذلك الكتلة السوفيتية، وهو ما يمثل بداية نظام دولى أحادى القيادة، بسطت خلاله الولايات المتحدة هيمنتها على العالم، خاصة وأن سياسات جورباتشوف كانت بمثابة انقلابا على المبادئ الشيوعية التى اعتنقتها موسكو لعقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى تبنيه منحى مخالف لأسلافه يقوم فى الأساس على التقارب مع الغرب، وعلى رأسهم الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، والتى لعبت دورا رئيسيا فى تحقيق التقارب بين الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة.
إنجازات ترامب.. تشويه الرئيس لحسم الصراع حول "الجدار العازل"
إلا أن مروجى الاتهامات التى تلاحق ترامب، ربما يتجاهلون الانجازات الكبيرة التى نجح فى تحقيقها، خاصة على الصعيد الاقتصادى، فى ضوء الطفرة الكبيرة التى حققها الاقتصاد الأمريكى منذ بداية حقبة الإدارة الحالية، وهو الأمر الذى فشلت فيه الإدارة السابقة برئاسة الديمقراطى باراك أوباما، بينما نجح الرئيس ترامب كذلك فى فرض رؤيته على حلفائه تجاه العديد من القضايا الدولية، وعلى رأسها الاتفاق النووى الإيرانى، والذين اتجهوا لمعارضة الانسحاب الأمريكى، بينما لم يتمكنوا من إنقاذه بخطوات حقيقية على الأرض، كما أنه اتخذ خطوات من شأنها استفزاز روسيا، وعلى رأسها تلويحه بالانسحاب من معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، وهو ما اعتبرته موسكو تهديدا خطيرا.
ترامب
وتمثل إنجازات ترامب السبب الرئيسى وراء لجوئه إلى المواطن الأمريكى، عبر الخطاب الذى قدمه قبل عدة أيام، حول صراعه مع الديمقراطيين فيما يتعلق بقضية "الجدار العازل"، حيث لوح بإعلان الطوارئ، للحصول على التمويل اللازم لبناء الجدار الذى يسعى الرئيس الأمريكى لبنائه على الحدود الأمريكية المكسيكية، وذلك لاحتواء التدفق الكبير للمهاجرين، حيث يعتبر أن الحدود المفتوحة تساهم بصورة كبيرة فى تسلل العديد من العناصر الإجرامية إلى الداخل الأمريكى، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا مباشرا للأمن فى الولايات المتحدة.
منحى تصعيدى.. مسلسل "العمالة" أداة الديمقراطيين لتحقيق المكاسب
وهنا اتخذ الحديث عن "عمالة" الرئيس لروسيا منحى تصعيدى فى المرحلة الراهنة، بالتزامن مع تصاعد التوتر بين البيت الأبيض والكونجرس على خلفية قضية "الجدار العازل"، ربما لفرض المزيد من الضغوط على ترامب للتنازل عن خطته لبناء الجدار، أو على الأقل الوصول إلى حل وسط فيما يتعلق بحجم التمويل الذى يطلبه.
ترامب ورئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسى
ويمثل ارتباط الحديث عن علاقة ترامب بروسيا بقضايا الداخل الأمريكى ليس جديدا، حيث يتصاعد الحديث عن هذه القضية مع كل صفعة يتلقاها الديمقراطيون، حيث بدأ مع هزيمة وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون لانتخابات الرئاسة أمام ترامب قبل عامين، وتزايد مع اقتراب انتخابات التجديد النصفى، وهو ما بدا واضحا بالتزامن مع القمة التى عقدها ترامب مع نظيره الروسى فى هلسنكى فى يوليو الماضى، وربما تشهد القضية المزيد من الجدل فى الأيام القادمة خاصة فى ظل التوقعات التى تدور حول تزايد حدة الصراع بين البيت الأبيض من جانب، والكونجرس بتشكيله الجديد من جانب أخر، مع نجاح الديمقراطيين فى الحصول على أغلبية المقاعد بمجلس النواب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة