قصيدتى لا تسقط فى "العاطفة الجياشة"
كثير من الشعر الحديث تقليد للأغنيات أو الهتافات السياسية
القصيدة ليست سيارة نقل لما هو خارج اللغة
الشعر فعل اجتماعى ومع ذلك النقاد لا يهتمون بهذا الجانب
شربل داغر شاعر من طراز خاص يشق طريقه إلى القصيدة عبر بوابات التفكير والخلق الجمالى الخالص بعيدا عن آثار السابقين، كما ينحو فى دراسته لمذاهب الجمال العربى منحى شعريا خالصا يتقصى الثوابت التى قامت عليها هذه المذاهب دون أن يخضع لتمحيص النقاد أو تفسير الشراح.
الشاعر صاحب "تخت شرقى، وحاطب ليل، والقصيدة لمن يشبهها، وعلى طرف لسانى" وغيرها، يتعامل مع القصيدة كحدث وجودى وجمالى يرتبط وجودها بوجود الشاعر نفسه، كما يرتبط تجليها بانفتاح آفاق جمالية جديدة على مستوى الشكل والرؤية والتفكير.
الحوار مع شربل داغر صاحب روايات "وصية هابيل، بدل عن ضائع، ابنة بونابرت المصرية" يثير كثيرا من الأسئلة الجدلية حول تقاطعات السرد والشعر وحول تقاطعات السرد والشعر وحول ماهية قصيدة النثر وروافدها ومستقبلها الجمالى، كما يثير الأسئلة حول الكتاببية والشفاهية، وهل يمكن تلقى نص شفاهى فى ظل التطور التكنولوجى والتقنى.
والحوار مع شربل داغر المولود فى مارس 1950، حافل بالمعرفة، فالقصيدة لديه تنبع من وعى كامل بشكلها ومعناها، ليست غنائية وليست مجرد حروف تتلى، إنها طريقة تفكير للعالم، وللأسف فالنقاد عادة لا ينتبهون لذلك الأمر.
"اليوم السابع" أجرى حوارا مع شربل داغر وقصيدته الممتدة منذ مجموعته الأولى "فتات البياض" التى أبدعها عام 1981، والذى كشف عن "قيمة " شعرية مهمة فى تاريخ الشعر العربى يحمل صوتا خاصا به بعيدا عن صراعات الشعراء أو اتفاقاتهم.
- كم شربل داغر تعرف؟ شربل الروائى وشربل الشاعر وشربل الناقد الأدبى المتعمق وشربل المهموم بتاريخ الجمال والتشكيل العربيين وشربل الأستاذ بالجامعة وشربل الكاتب بالعربية وشربل المفكر والكاتب أحيانا بالفرنسية، كيف تتجاور كل هذه الوجوه؟
هذا سؤال لا يقلقنى الآن، كان يقلقنى فى سنوات سابقة، عندما كنت أحتار فى أى وجهة لكتابتى أن تتقدم، لو أعود بالذاكرة إلى مراهقتى لوجدت فيها بعضًا من إقبالى على فنون أدبية مختلفة، إلا أن هذا التعدد زاد مع العمر... لهذا علاقة بما درستُ، بثنائية تخصصى العالى بين الشعر وفلسفة الفن، إلا أن له علاقة أشد بالصحافة، حيث إننى خبرت فيها امتحانات أولى لشغفٍ ما توانى عن الظهور والتأكد... ففى سنواتى الصحفية، قادتنى الكتابة، وحاجات العمل نفسها، إلى سلوك طرق غير معتادة. هذا كان أشبه بفتح الشهية... إلا أن ما بدا نزهة خارج المعتاد انتهى إلى أن يكون اشتغالًا على مقادير من التتابع. فقد تعددت ميادين كتابتى وتنوعت إلى درجة تفاجئنى أنا نفسي، فكيف الناقد أو القارئ! هذا ما بتُّ أسميه "الورطة"... غير أنها ورطة جميلة، تجعلنى أتبين وجوه الكتابة مقدار ما أتبين وجهى وأصواتى المتعددة.
- نبدأ من الشعر، وصدور مختارات جديدة فى القاهرة... كيف ترى محنة الشعر وصعوبة تلقيه فى البلاد العربية؟ وهل حقا العالم لم يعد يلتفت إلى الشعر؟
فعلًا، يعيش الشعر محنة أكاد أن أقول فيها إنها عالمية، لم يعد الشعر "أعلى" الفنون منذ أكثر من قرن، لصالح الفنون التشكيلية، بداية، والآن، لصالح الصورة الحيوية والممتدة، مع الشاشات المختلفة، من الهاتف إلى الصالات والبيوت. ذلك أن ما يجتاح العالم، ابتداء من العقود الأولى فى القرن العشرين، هو "البضاعات الثقافية الجماهيرية"، مع الأسطوانة والتلفزيون والأغنية والفيلم وغيرها. هذا لم يُعلِ فقط من فنون، ويُسقط من فنون، وإنما جعل منسوب الإبداع متدنيًا.
مع ذلك يمكن القول إن حال الشعر فى البلاد العربية أفضل حالًا من غيرها من البلدان فى العالم. فأعداد الشعراء تتزايد، والجدل حول الشعر قائم، والنشر مستمر، وإن يتخذ شكل النشر "الفايسبوكي" فى أحوال كثيرة.
الأكيد هو أن الشعر لا يقوى على العيش والتجدد فى حياتنا الثقافية والإبداعية من دون تنمية حضوره فى الكتاب والمجتمع، وتحسين شروط التذوق الشعرى من المدرسة إلى الشاشة الصغيرة مرورًا بالبيت. تخضع الآداب والفنون بصورة مزيدة لشروط السوق المعولم، ما يُضعف تمامًا من حظوظ الشعر. الاتجار بالأدب والفن لا يعنى، ولا يوفر دومًا أعلى التشكلات والصياغات الجمالية، فيما للشعر أن يوفرها أكثر من غيره.
خيار الدفاع عن الشعر هو، فى حسابى، خيار الدفاع عن وجوه الحرية فى عالم يجرى فيه الحديث عن حرية الفرد، فيما توفر التكنولوجيات الجديدة مزيدًا من الرقابة عليه، والتحكم به.
الشعر يبقى التفلتَ الممكن من قبضة التحكم، ويبقى متعتنا العالية والمجانية.
- قصائدك عموما تعنى بما وراء القصيدة، تشكلها ووجودها وتجليها وإيجادها لشاعرها إن جاز التعبير، كما تعنى برؤية العالم من خلال الاكتشافات الفلسفية والجمالية وليس العواطف الجياشة... كيف ترى مدخلك إلى القصيدة؟ من الفكرة أم اللقطة أم الموضوع أم الهم الذاتى؟
للقصيدة كيانها اللغوى، وهو أساس بنائها، إلا أن لها تجليات وتعبيرات تصلها حكمًا بالأدب وبالجمالية. هذا ما يقوم به الشاعر أحيانًا فى قصيدته من دون علمه أو قصده. هذا ما أقوم به، من ناحيتى، وفق مقادير من التدبير المطلوب للقصيدة. فالقصيدة ليست معزولة عما يحاذيها، فكيف إن طلبت التحاور والتفاعل مع فنون قريبة منها. هذا ما فعلَه السرد فى القصيدة، فيما لم يكن أبدًا جزءًا من البناء فى الشعر العربى القديم، فيما عنى تحديثُ القصيدة العربية، منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، اقترابًا وتفاعلًا أكيدين مع السرد.
لقصيدتى انطلاقات متعددة: من هم، أو لحظة، أو شاردة وغيرها. القصيدة مثل دولاب هواء يتنصت ويجارى هواء الزمن، على أن الشاعر يتدبره بالمعالجة. إن انشغالات قصيدتى بما هو أعلى منها، أو ما وراءها، لا يعنى أبدًا عدم انطلاقها من اللحظة، حيث تكون القصيدة تجربة فى العيش، ولكنها تتعين فى عيش الكلمات نفسها.
ما تقوله صحيح لجهة أن قصيدتى تبتعد عن عالم العواطف الجياشة، وهو يعنى عندى ابتعادى عن الغنائية، وعما أسميه بالدندنة العاطفية. أعتقد أن القصيدة العربية الحديثة قلدت كثيرًا، عند عدد من شعرائها، عالم الأغنية، الذى شهد فورة كبيرة مع الأسطوانة والفيلم ثم التليفزيون. وأعتقد أيضًا أن القصيدة قلدت عالم السياسة، فى الخطاب والتظاهرة وغيرها، ما نجده فى كثير من الشعر الحديث الذى يقوم بعملية ببغائية لغيره.
قصيدتى تبتعد عن سابق تصميم وتعمد عن هذه العوالم، مع أنها تتناول تجليات الانفعال العاطفى والسياسى وغيرها، ولكن من دون أن ترفق ذلك بتردادت واستعادات شبيهة بما تقوم عليه الأغنية العربية الجماهيرية.
- شربل داغر فى أعماله الشعرية هو شاعر يفكر فى القصيدة ويفكر من خلال القصيدة، وتصوراته عن القصيدة أنها نوع من التفكر فى اللغة، كما أنك صاحب ديوان بعنوان "لا تبحث عن معنى لعله يلقاك".. إذن من ينتج المعنى داخل القصيدة؟
لو تعدْ إلى شعرى الأول ستجد بأن القصيدة انتهت أحيانًا إلى أن تكون موضوعًا للقصيدة نفسها. القصيدة لا تُكتب فقط، وإنما ترى إلى نفسها وهى قيد الكتابة. هذا الشاغل لا يبدو بعيدًا، فى حسابى، عن شاغل رافقَ الفلسفة نفسها، ابتداء من نيتشه وصولًا إلى هايدغر، وهو أن خطاب التفلسف لم يعد يعنى بالوجود، وإنما بات يسائل اللغة، وفيها، عن الوجود.
لا يمكن فصل المعنى عن الشكل، وعن اللغة. القصيدة ليست سيارة نقل لما هو خارج اللغة، أو يقع خارجها ويؤتى به إلى القصيدة. من لديه هذه القناعة، يكون مقتنعًا بوجود مسبقات، مثل الموقف الحزبى والسياسى الذى يكتب القصيدة عند بعضهم، كما لو أن اللغة حذاء ينتعلونه للمشى فيها ليس إلا.
- أنت تقول فى قصيدة بعنوان "لا تبحث عن معنى": القصيدة تنتظرنى/ والقارئ ينتظرها /وأنا أنتظر ألقا لا يخبو / على أطراف أصابعى"... القصيدة بالنسبة إليك فعل اجتماعى وتفاعل مستمر. كيف؟
ما تفتقر إليه دراساتنا عن الشعر العربى، فى قديمه وحديثه، هو التناول الاجتماعى له. تركز درسنا، فى قديمه، حول بلاغة القصيدة، فى تناولات جزئية وموضعية لها، فيما انصرف النقد الحديث إلى تناولات محدودة، توقفت عند علاقات الشعر بالنثر، وحول مقومات الشعرية، وحول أطراف من المعانى الدائرة فى فلك الشعر.
أما اجتماعية الشعر، فهى فى حسابى، الفقيرة المبعدة، فيما أرى أن الشعر اجتماعى فى طبيعته، ما دام أنه، عند شاعره، احتياج إلى البث، إلى التلفظ، وعند متلقيه، احتياجٌ إلى التقبل والانفعال. إلا أن التقليد يفسد أو يخفف من اجتماعية الشعر، ما دام أن القصيدة تنحو صوب المطلوب، صوب المتبع، فلا تجعل القصيدة – كما عند أبى نواس وابن الرومى وغيرهما – أقوالًا فى حوار مفتوح، خارج القصيدة وحولها.
أما مع الشعر العربى الحديث فقد زادت "اجتماعية" الشعر، مع توقيعات الخطاب اليسارى أو القومى، إذ باتت القصيدة تحمل سِيرًا وأخبارًا وتعبيرات عن: العامل، والفلاح، والجندي، والمُخبر والحبلى والمومس وغيرهم، فيما طلب الشاعر أن يكون: الراوى، أو المتقدم فى تظاهرة، أو صائغ النشيد، أو "مفرد فى صيغة الجمع"... أما القصيدة بالنثر، فقد اتجهت إلى "الغرفة" مع أنسى الحاج، ونزلت إلى "الشارع" مع محمد الماغوط... فى ما يخصنى تنحو الاجتماعية فى شعرى وجهة أخرى، تتعين فى المتكلم بطبيعة الحال، لكنها تتعين فى لحظوية منشودة، حيث التكلم يعنى تأكيدَ الذات فى وجودها، فى عيشها. تكاد جملة: "هكذا أكتب"، تساوى أو تعين جملة: "هكذا أكون". ففعلُ الكتابة لا يتوسطه شاغل خارجي، ولا يتوجه به إلى آخر، مطلوب، وإنما هو استحضار للكائن فى المتكلم، وتموقع فى تدافعات الزمن الجارى.
- فى كتابك " ترانزيت"، محاولة لاصطناع شكل حوارى مسرحى ربما لمجموعة من المحبوسين فى صالة الترانزيت، وهذا الشكل يبدو وكأنه مصالحة بين أشكال عدة، كما يظهر الشاعر بأكثر من دور وصوت.. إلى أى أرض خرجت فى هذا الكتاب، وهل تسعى لشكل أدبى يجمع كل فنون الكتابة؟
لا أحبذ الكلام عن "اصطناع الشكل" ما دمت أننى أعتبر أن المتكلم، أيًّا كان، يبدل اللغة بالضرورة إذ يستعملها، فكيف بالشاعر نفسه، بخاصة من يطلب تجديد اللغة وإزاحتها عن مساراتها المعهودة.
خرجت بالقصيدة إلى برية الكلام، إلى جدل الأشكال الأسلوبية والتعبيرية المختلفة، إلى ما يشبه قاعة "ترانزيت" فعلًا فى مطار: إنها "ترانزيت" الكتابة، بل ترانزيت الكتابة مع الكاميرا والحاسوب والمشهدية المسرحية، كما يمكن ملاحظة هذا فى مجموع الكتاب.
هى تجربة متطرفة بطبيعة الحال. تجربة بالمعنى التجريبى للكلمة. تجربة تطلب الخروج من معهود الكتابة الشعرية، بين تفعيليتها ونثريتها. فالقصيدة، فى هذه البلاد، باتت تفتقر إلى التجريب، وباتت تركن إلى ساريها، فترى المجموعات الشعرية تتناسل من بعضها البعض، فلا تميز كاتب هذه القصيدة عن جاره البعيد.
غير أن ما حركنى إلى كتابة هذا النوع، الذى يعود فى شعرى إلى العام 2005، صدر عن نوع من التذمر مما آلت إليه قصيدة المتكلم فى الشعر العربى الحديث: متكلم باسم جماعة، أو متكلم متصعلك ولكن بنبرة عالية.
يغلب على هذا النص التمسرح، إلا أنه يتوسل أيضًا أساليب كتابية أخرى، مثل الرواية، والحوار بالطبع، كما انه يتلاعب بالصورة كما بالتشبيه والاستعارة. إلا ان احتياجى إلى التمسرح لم يكن بغرض توسعة ما يمكن للقصيدة بالنثر أن توظفه فى أبنيتها، وإنما تأتى خصوصًا من حاجتى لتمثيل ما هى القصيدة فى حسابي، وهو أنها أصوات، وليست – مثلما آلت إليه – خطابًا، وعظة، وصراخًا وغيرها، مما يبعدها عن فردية المتكلم فى وجوده.
- أنت مشغول فى الشعر باجتراح شكل أكثر من انشغالك بالقبض على معنى. ديوانك "إعرابا لشكل" و"ترانزيت" يؤكدان أن الشكل هو المعنى بالنسبة لشربل داغر. كيف ترى ذلك؟
فعلًا، يعنينى الاشتغال على شكل القصيدة، على ما أسميه "قَوامها" أيضًا.
أرى أن مسألة الشكل مهملة فى الشعرية العربية. فى القصيدة القديمة، الشكل يختفى سلفًا وحكمًا فى البيت المتتابع وفى الوزن العروضي. مع ذلك ظهرت فى الماضى تجارب ما كنا نعلم بوجودها، وهى مساعٍ قامت بتوليد أشكال هندسية وزخرفية مع أبيات القصيدة، ولا سيما فى ما أطلق عليه أحد شعرائه: "شعر المدبَّجات".
الشكل بات مسألة مفتوحة، على ما أظن، منذ أن تخلع بناء القصيدة العربية فى القرن التاسع عشر. باتت القصيدة تحتاج إلى ما يكفل ظهورها، مثولها، أى لما بات يتعين في: هيئة القصيدة، كما أسميها، أو فى شكلها الخطي، كما أسميته أيضًا. حتى قصيدة التفعيلة اعتنت بشكلها، ما يظهر بجلاء واضح فى قصيدة "أنشودة المطر" وغيرها الكثير. وهو ما اشتغل عليها بعض شعراء القصيدة بالنثر، حتى إنه بلغَ عنايات تشكيلية وزخرفية وغيرها.
من ناحيتى، أذهب بالشكل وجهة إضافية. أذهب به إلى بناء الجملة، قبل بناء النص نفسه. فالقصيدة عندى تنتظم، أو تتشكل، وفق إيقاع جملتها، وفق إيقاع تتابعها، فى علاقة الجملة والجمل بالسطر نفسه، بين منقطع ومتصل... إلا أن الشكل معنى، فى المقام الأول. هذا ما أخذتُه عن اللسانية الحديثة. هذا ما أكتبه عن أن القصيدة بناء لغوي، فضلًا عن كونه بناءً ثقافيًا وجماليًأ أيضًا. ما لا ننتبه إليه كثيرًا، هو أن الرثاثة اللغوية باتت تتحكم ببناء العبارة، فيما يتصرف التقليديون كما لو أن العودة إلى لغة "خشبية"، مجلوبة من خارج زمنها، تبعث الحياة فى عظام القصيدة..
بلى، الشكل ليس وعاء، ولا آنية، إنه تشكلُ المعنى. ومن يتابع تشكل مدارات المعانى فى مجموعاتى الشعرية يمكن له أن يرى إلى معانيها فى أبنية جُملها، لا فى معان مستقاة، و"منزلة" فى القصيدة... إذ ذاك تكون القصيدة قاربًا، أو سيارة نقل، وليست أبدًا صنيعًا مبتكرًا، جديرًا بالحياة.
بعثُ الحياة فى الألفاظ ليس تحريكًا لغويًا أو زخرفيًا لها، وإنما هو تحريك للطاقات الخاملة فيها أحيانًا، أو تحريكها بما لم تعتد عليه: هذا كله يصب فى صالح القصيدة، أى فى مصلحة القارئ.
- النص الشعرى لدى شربل داغر، إلى أى مدى يبدو متقاطعا مع الفنون البصرية ومتداخلا مع منجزات التكنولوجيا من كمبيوتر ومحمول ومواقع تواصل اجتماعى، ربما أكثر من التراث القريب لقصيدة النثر العربية.. كيف ترى ذلك؟
انقطعتْ قصيدتى، منذ بداياتها، عن إرث النثر البلاغى و"الديوانى"، كما عن النثر الذى يستسهل ركوب القصيدة، مثل من ينتعل جوربًا.
أجدنى أقرب إلى إرث ما قاله طه حسين ومحمد حسين هكيل فى العقود الأولى من القرن العشرين حين تحدثا عن "ثورة النثر". أجدنى أقرب إلى ما اسميه الكتابية، بعيدًا عن بقايا الشفوية فى القصيدة العربية.
لهذا كان تعاملى طبيعيًّا، تلقائيًّا، مع الفنون البصرية، حيث إننى وجدتُ أن القصيدة كيان جمالي، هو الآخر، كيان متفاعل مع عين القارئ، مثلما يصدر عن عين الشاعر إذ يكتب. وهو ما وجده فنانون فى شعرى، وتفاعلوا معه وأنتجوا واقترحوا إنتاجات بصرية متفاعلة مع القصائد.
كما أتى تعاملى مع الحاسوب طبيعيًا وتلقائيًا، هو الآخر، مع أننى لم أعرْ اهتمامًا، قبل ذلك، للآلة الكاتبة على الرغم من من وفرة إغراءات الصور عنها مع الكاتب، ولا سيما مع همنجواى وغيره. مع الحاسوب، التحقتُ بدورة تدريب عليه، منذ العام 1986 فى باريس. وهو ما جعلنى أكتب بشكل متناسب مع ما شرعوا به فى جريدة "الحياة"، أى الصيغة الإلكترونية، إذ انصرفتُ، فى مقالاتي، كما فى نصوصى وشعري، إلى الحاسوب.
غير أن التعويل على الحامل الرقمى لم يكن تعويلًا ماديًا، أو تقنيًّأ وحسب، وإنما جرى وفق عقلية تتمثل ما قاله مارشال ماكلوهان، وهو أن: "الحامل المادى (أو الوسيط) هو الرسالة". ومؤدى كلامه هو أن الآلة التى نستعملها لوضع رسائلنا ونصوصنا، تُملى شروطها على معناها.
هذا ما جعل الحاسوب – "مجازى المحمول"، فى إحدى مجموعاتى الشعرية – استعارة كبرى، جديدة، ومحولة، للقصيدة، إلا أنه كان، قبل هذا كله، وضعٌ جديد للكتابة، وبالتالى للنص، ما يجعل الكاتب متغيرًا بالضرورة، فكيف إن طلب التجاوب معه، مثلى.
- شربل داغر يقف بين إفصاح يحمله ظاهر العبارة الشعرية وإسرار يتجلى فى تركيبها مع تعمد عدم اكتمال الدلالة.. كيف توضح ذلك؟
جميل ودقيق هذا الكلام فى كلامى الشعرى، إذ يتعين تمامًا بين إفصاح وإسرار. ذلك أن قارئ القصيدة له أن يسلكها مثلما تتوافر له فى بنية الجمل والمقاطع، أى أن ينزل إليها، إذا جاز الوصف، بما يتيح له أن يرى ما يظن أنه يعرفه، وما يتحقق من أنه مختلف فى الوقت عينه، فى القصيدة.
فالقصيدة لا تعدو كونها قولًا فرديًا فى حوار مفتوح، يسبق القصيدة ويتبعُها. وهو قول فيه من الخصوصية مقدار ما فيه من طلبِ التفاعل مع سياق التلفظ نفسه.
- الشاعر لدى شربل داغر هو مشاء أعمى، يمشى ولا يقرأ ويقرأ وهو مغمض العينين، يهجس بالأشياء دون أن يتبينها.. أى صورة ساخرة للشاعر تناقض الصور الراسخة للشاعر الرائى والشاعر البصير والشاعر القابض على الوعى الجمالى فى الشعر العربى.. أية قدرة إذن للشاعر كما تراه وأى خيال يمتلك وإلى أى أرض يصل سوى أرض الشك والعدم؟
- هذا قول دقيق، ليس فى وصف الشاعر، كما أرى إليه، بل فى الشاعر كما يعمل عندى فى قصيدته. الشاعر، الذى هو أنا، لا ينطلق من سابق، وإنما يندرج فيه، لا ليغنيه أو يبرزه، وإنما لكى يجلوه فى غامضه. الشاعر، فى هذا، ليس أكيدًا من فعلته، مما يقوم به، مثلما ترى ذلك فى منصات شعراء كثيرين، حيث إن الشاعر لديهم أشبه بالعرّافات فى المسرح الإغريقى القديم، اللواتى يكشفن الغيب عن أسراره وحمولاته، أو تراه أشبه بالمطرب إذ يستثير عواطف مدربة لدى الجمهور ومتمكنة منه.
- يتجلى فى أعمالك الشعرية هذا التوحد بين الشاعر وكلمته، الشاعر لايكون موجودا قبل كلمته قبل قصيدته، القصيدة هى ولادة وجودية قبل أن تكون ولادة جمالية للشاعر، من يخلق من لدى شربل داغر .. القصيدة أم الشاعر؟
هذا كلام يقع فى صميم ما أكتب، فى صميم ما أعيش بين كونى إنسانًا وبين كونى شاعرًا وبين قصيدتى نفسها.
أعود أحيانًا، فى تفسير هذا، إلى ما دعا إليه واشتغلَ عليه برتولت بريشت فى مسرحه، وهو: "التبعيد"، حيث يقيم المسرحى الألمانى مسافة بين الممثل نفسه وبين الدور الذى يلعبه... فهما، فى مسرحه، وفى الواقع نفسه، اثنان، لا واحد. هذا التبعيد أقمتُه فى عدد من قصائدي، ولا سيما فى التى لا وجود فيها لمتكلم "يحتكر" القصيدة أو يتصدرُها، إذ جاز القول، وإنما هناك متكلمون كثر، ممن يتداولون الكلام الشعرى.
لا تخلو بعض قصائدى من ثلاثى، هو: الشاعر بوصفه إنسانًا، والشاعر بوصفه متكلمًا فيها، والقصيدة بينهما. ففى قصائد مثل هذه تنعقد علاقات – بعضها نزاعي، وحزين – بين هذه الأطراف الثلاثة، وتبدو فيها القصيدة هى الأبقى – إن بقيتْ – بينها.
فى أحيان أتكلم عن غربتى مع قصيدتى، بعد أن تخرج منى، فى عهدة قارئ، أو إذ أزورها بعد وقت، أو أتفقدها بعد النشر من جديد.
فى أحيان، لا أتورع عن الكتابة، أو عن التصريح، أن ما يعنينى من القصيدة هو وجودها، معناها الذى يتعدانى، لا شخصى. إلا أن أقوالى يشوبها ألم أكيد، وهو أن القصيدة قد تبقى ناقصة، بعد خروجها إلى القارئ: ناقصة عما انطلقت منه، وناقصة، إذ إنها تكون – نهائيًّا – من دونى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة