على الرغم من الاحتجاجات غير المسبوقة التى شهدتها العديد من العواصم الأوروبية، وعلى رأسها باريس، بسبب هيمنة دعاة الوحدة الأوروبية على مقاليد الأمور فى بلدانهم فى السنوات الماضية، تأتى معاهدة "آخن" التى وقعتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مع الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أمس، والتى تقوم على دعم الوحدة الأوروبية، والتأكيد على خطوة تأسيس الجيش الأوروبى المشترك، لمجابهة التهديدات التى تواجهها القارة العجوز، فى ظل حالة من التخلى الأمريكى عن الحلفاء، تبناها الرئيس دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، قبل عامين.
إلا أن توقيت المعاهدة يبدو مثيرا للجدل، خاصة فى ظل تزامنه مع احتجاجات السترات الصفراء، التى تسببت فى حالة من الارتباك غير المسبوق فى العاصمة الفرنسية باريس، والتى أدت إلى موجات من العنف والفوضى، بسبب الاشتباكات التى دارت بين المتظاهرين وقوات الشرطة الفرنسية، بالإضافة كذلك إلى اعتداء المتظاهرين على المؤسسات والبنوك، وأملاك المواطنين فى أرقى الأحياء الباريسية، بسبب رفضهم لسياسات ماكرون، والتى تعطى أولوية كبيرة لأوروبا على حساب التوجه القومى لفرنسا، وهو الأمر الذى يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت المعاهدة تمثل دعما ألمانيا للقيادة الفرنسية الجديدة للقارة، أم أنها مجرد فخ تسعى برلين من خلاله إلى توريط الحكومة الفرنسية فى المزيد من المشكلات بالداخل فى المرحلة الراهنة.
نزعة أوروبية مشتركة.. صراع ألمانى فرنسى على القيادة
فعلى الرغم من النزعة الأوروبية المشتركة التى تجمع بين الرئيس الفرنسى والمستشارة الألمانية، إلا أن التنافس على القيادة القارية كان أحد أبرز سمات العلاقة بينهما منذ بزوغ نجم ماكرون على الساحة السياسية فى أوروبا، حيث تبنى الرئيس الشاب شعار الإصلاح، سواء فى الداخل الفرنسى أو على المستوى القارى، فى إشارة صريحة لحاجة أوروبا إلى قيادة جديدة يمكنها وراثة عرش ميركل فى القارة العجوز بعد سنوات من الهيمنة الألمانية على مقاليد الأمور، خاصة بالتزامن مع حقبة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، والذى كان بمثابة الداعم الأكبر لدور برلين القيادى فى أوروبا، فى ظل تطابق الرؤى بينه وبين ميركل.
ميركل وماكرون أثناء التوقيع على الاتفاقية
ولكن يبدو أن الأمور تغيرت بصورة كبير مع بداية حقبة ترامب، فى ظل موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبى من جانب، بالإضافة كذلك إلى رفضه الكامل لرؤى ميركل، لتصبح قدرة ألمانيا على الاستمرار فى دورها القائد بأوروبا على المحك، خاصة وأن مثل هذا الدور يبدو مرهونا إلى حد كبير بالدعم الأمريكى الذى صار غائبا بنهاية حقبة أوباما، ليجد ماكرون فرصة نادرة يمكنه من خلالها استعادة النفوذ الفرنسى الغائب منذ عقود من البوابة الأوروبية، عبر الدعوة إلى الإصلاح الاقتصادى، بالإضافة إلى دعوته الأخرى بتشكيل جيش أوروبى موحد يمكن أوروبا من الاعتماد على نفسها، بعيدا عن الولايات المتحدة التى طالما اعتمدت عليها لسنوات طويلة.
ويمثل التوجه الوحدوى الأوروبى لماكرون، فى جوهره أحد الأسباب الرئيسية لحالة الغضب التى هيمنت على الشارع الأوروبى، وفى القلب منه شوارع باريس المحترقة فى الأسابيع الماضية، فى ظل تردى الأوضاع الاقتصادية وتنامى أخطار الإرهاب جراء سياسة الحدود المفتوحة، وبالتالى تصبح المعاهدة الألمانية الفرنسية، والتى تفتح الباب أمام تشكيل الجيش الأوروبى الموحد، بمثابة استفزاز جديد من قبل القيادة الفرنسية للمعارضين لها، فى ظل الحديث المتنامى عن مساسها بالسيادة الفرنسية.
دعم شفوى.. ألمانيا لا تملك كوادر لتشكيل الجيش الموحد
ولعل المعاهدة الألمانية تمثل امتدادا للدعم الذى أعلنته برلين مرارا وتكرارا لفكرة الجيش الأوروبى المشترك، والتى أعلنها ماكرون فى نوفمبر من العام الماضى، إلا أن الدعم الألمانى يبدو مقتصرا منذ ذلك الحين على التصريحات، وهو ما يثير التساؤلات حول ما إذا كانت برلين لديها ما يمكنها المساهمة به فى وضع نواة الجيش الموحد فى المرحلة المقبلة، فى ظل ما تعانيه حكومة ميركل من تحديات صعبة فى الداخل بسبب الانقسامات حول العديد من القضايا، بالإضافة إلى حالة الاستياء الداخلى جراء سياساتها التى أضرت بالاقتصاد والأمن فى السنوات الماضية.
الجيش الألمانى يواجه تحديات كبيرة بسبب النقص العددى
إلا أن الحديث عن مشاركة ألمانية فى تشكيل جيش أوروبى ربما يلفت الانتباه إلى أزمة نقص العنصر البشرى التى يعانيها الجيش الألمانى فى المرحلة الراهنة بسبب قرار إلغاء التجنيد الإلزامى، وهو الأمر الذى أدى إلى قلة أعداد الجنود الألمان فى الآونة الأخيرة، حيث أصبح لا يتجاوز 182 ألفا فى ظل إحجام الشباب الألمانى عن الانضمام للجيش، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرغبة ميركل فى الاعتماد على فرنسا فى حمايتها، خاصة بعد تلويح الولايات المتحدة المتواتر بالانسحاب من الناتو.
غياب أوروبى.. المعاهدة تتجاهل مخاوف دول القارة
ولم يقتصر التحدى الذى تواجهه فرنسا، إثر توقيعها على المعاهدة المثيرة للجدل، على المحاولة الألمانية لتوريطها فى العديد من المشكلات خاصة فى الداخل، لكن أيضا يمتد إلى الشركاء الأخرين فى أوروبا نفسها، والذين يحملون تحفظات كبيرة على الاستمرار على السياسات الليبرالية التى يتبناها الاتحاد الأوروبى فى المرحلة الراهنة، فى ظل مخاوف من امتداد تهديد السترات الصفراء إلى بلدانهم فى المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى الرفض النمساوى للمقترحات الألمانية الفرنسية بتأسيس ميزانية موحدة، متهمة باريس بعدم الوفاء بالتزاماتها.
الفوضى تعم باريس بسبب احتجاجات السترات الصفراء
ولعل اقتصار المعاهدة على ألمانيا وفرنسا دون إشراك أطراف أوروبية أخرى، يثير شكوكا كبيرة حول وجود انقسام كبير بين دول الاتحاد الأوروبى، خاصة وأنها تجاهلت مخاوف كبيرة لدى قيادات أوروبا، والذين يسعون إلى تهدئة الأوضاع فى الداخل، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا صارخا لبقاء الكيان المشترك فى المرحلة المقبلة خاصة وأن قادة الدول الأوروبية ربما يتجهون نحو نبنى نهجا قوميا لاسترضاء القطاع العريض من مواطنى دولهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة