دينا شرف الدين

مكارم الأخلاق (١٢) "الكرامة"

الجمعة، 04 يناير 2019 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كما تعودنا أن نبدأ الحديث عن مكارم الأخلاق بقول النبى الكريم ذى الخلق العظيم محمد صلى الله عليه وسلم" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ."

 

وأما عن الفضيلة الأخلاقية التى نتناولها بمقال اليوم "الكرامة"، فهى بحق ذات قيمة كبيرة، حيث يشعر الإنسان بعزته وكبريائه حين يحفظها ويضعها دائماً وأبداً نصب عينيه، ويشعر بذلته ومهانته عندما يتنازل عنها وينحيها جانباً .

 

ويقصد بالكرامة احترام المرء لذاته، فشعوره بالشّرف والقيمة الشخصيّة يجعله يتأثّر ويتألّم إذا ما انتقص قَدْره، كما أنها مبدأ أخلاقى يُقرِّر أنّ الإنسان ينبغى أن يعامل على أنّه غاية فى حد ذاته لا وسيلة، وكرامته كإنسان فوق كلِّ اعتبار .

وعموماً فكرامة الإنسان مرتبطة باحترام احتياجاته النابعة من طبيعته البشرية، كما أنها مرتبطة أيضا بالتحرر من الخوف ومن الحاجة.

 

و(الكريم ) من أسماء المولى عزّ وجلّ وصفاته،  قال الغزالى: الكريم  "هو الّذى إذا قدر عفا، وإذا وعد وفّى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرّجاء، ولا يبالى كم أعطى، ولا من أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جفى عاتب وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشّفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلّف فهو الكريم المطلق وذلك هو اللّه تعالى فقط" .

 

ولقد كرّم اللّه الإنسان بتفضيله على كثير من خلقه فقال تعالى:  وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا. (الإسراء/ 70).. "إنه لقرآن كريم، فى كتاب مكنون" (الواقعة /٧٧-٧٨).. "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ". (الحجرات/ 13)

 

إذ إن الله تعالى كرم الإنسان وفضله على سائر مخلوقاته واختصه بالعقل والحكمة و الكرامة وعزة النفس، ففى تراثنا كما قال "زهير بن أبى سلمى" فى معلقته من الشعر الجاهلى:  "ومَنْ لا يُكَرِّمْ نفْسَه لا يُكَرَّم ".

والسؤال هنا كيف يكرم الإنسان نفسه؟

أولاً / لا كرامة للإنسان بغير علم ومعرفة

 

ولاِسْتيعاب الإنسان للعلوم وتعلُّمِها وتعليمها، أودَع فيه اللهُ - تعالى - بعض مفاتيح المعرفة (التفكُّر، النَّظر، العقل، البصر، القلب، اللُّب...).

 

قال سبحانه: ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 185].

 

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾. [الحج: 46].

 

﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. [آل عمران:7]

 

﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]،

 

فلابد للإنسان من احترام عقله الذى من الله عليه به والحرص على التعلم والمعرفة والتدبر والتأمل، فكلما ازداد علم الإنسان واتسعت مداركه وتحرر عقله كلما ازدادت ثقته بنفسه وعلت كرامته وكان أكثر حرصاً على حفظها وصونها، إذ إنه بعلمه الغزير بات ممتلئا مستغنيا واثقا غير مشوش أو مهزوز أو خجلان من نقيصة أو جهل يريد إخفائه .

وصاحب الكرامة لا يتنازل عنها أو عن جزءٍ منها، إذ إنها لا تتجزأ لأى سبب أو مقابل أى شىء، فإن كانت حاجته و غرضه أولى وأهم من حفظ كرامته، فلا كرامة له ولن تغنيه حاجته التى حصل عليها ولن تعلى من قدره ولن تجبر الآخرين على احترامه و تقديره وإن كان يملك كنوز الأرض .

 

ثانياً / العفة أساس الكرامة :

 

ومن تكريم الإنسان لنفسه صونها عن ذلّ سؤال الخلق، بالسعى والرضى بما قسم اللّه له من الرّزق الحلال، فإذا سعى واجتهد ورزق ما قدّر اللّه له أصبحت نفسه عزيزة بإيمانها، قويّة بعزّتها، لا تغرّها الدّنيا ولا يعميها الطّمع

 

فعبد الشهوة لا كرامة له بل هو أذل من عبد الرق كما يقال، لأنه قد يرتكب من الأفعال الشنيعة ما يستحيى منه هو نفسه عند صحوة ضميره، ويشعر بالذل أمام نفسه قبل أن يشعر به أمام الآخرين .

 

ألا نتذكر الحياء والتعفف فى القرآن الكريم، والفقراء الذين يُعرفون بسيماهم ولا يسألون الناس إلحافاً، تحسبهم أغنياء من التعفف. فلا كرامة مع الفقر، ولا حياء مع الحاجة.

 

 

فعلى سبيل المثال :

فى الأعياد والمناسبات نسمع بكثرة جملة "كل سنة وأنت طيب"، "الله يعود عليكم الأيام بالخير"، من كل اتجاه، فشعب مصر ليس شعباً من الفقراء الذى يمد البعض منه اليد للسؤال بدلا من أن يمدها بالفأس للزراعة فى الحقل، أو بالمفتاح للإنتاج فى المصنع، أو بالبحث عن عمل شريف وإن كان بأجرٍ زهيد قد يبارك به الله ويضاعفه ويغنيه عن سؤال اللئيم وفوق كل هذا وذاك يحفظ به كرامته ويعز نفسه ويكرمها كما كرمها المولى عز وجل بعد أن خلقه ولم يكن شيئا.

 

فلم يتسارع الشباب فى البحث عن أى فرصة للفرار خارج البلاد بحجة العمل غير المتوفر واستجداء سفارات الدول بكل وسيلة للحصول على تأشيرات الدخول والتضحية بالحياة نفسها، وربما الموت غرقاً فى بعض الأحيان عند اتخاذ قرار الهجرة غير الشرعية لدول ترفض منح تأشيرات الدخول لأراضيها !

 

ناهيك عن كم الإهانات التى قد يواجهها هذا الذى خلع كرامته على أبواب الغرباء وقرر أن يتحمل كافة أشكال التعنت والرفض والتعالى من أجل حفنة دراهم أو ريالات أو حتى دولارات زائلة.

فكم من رجال قضوا أجمل سنوات العمر وزهرة شبابه يعملون بغير أراضيهم أملاً فى عودة كريمة تعوض ما ضاع من العمر، ولكنه عادة ما لا يحدث، فسرعان ما تسرح تلك الدول عمالة الوافدين فجأة و دون مقدمات ليعودوا بعد انقضاء العمر لبلادهم التى لا تغلق أبوابها بوجوههم أبداً صفر اليدين فاقدى الهيبة و الكرامة، تلك التى لا تشتريها و لا تعوضها كنوز الأرض .

 

إذن: فالتعفف والترفع عن الذلة والمهانة مقابل الحاجة، وإن كانت ملحة، هو أهم سبل حفظ كرامة الإنسان التى إن فقدها وتنازل عنها لأجل أى شىء ماتت روحه وعاش جسداً بلا روح يمشى على الأرض .

 

            •          فى نهج البلاغة يقول الإمام عليه السلام لأصحابه:

"فالموت فى حياتكم مقهورين والحياة فى موتكم قاهرين."

 إذ إن للعزة والسيادة قدراً وقيمة عظمى، بحيث لا يمكن أن يتخلى عنها فى الحياة، فإن تحققت العزة فلا يهم أن يتحرك جسم الإنسان على هذه الأرض أم لا، وإن لم تكن فالحركة والحياة على وجه الأرض موت.

 

            •          و كان شعار سيد الشهداء المعروف فى يوم عاشوراء هو "الموت أولى من ركوب العار".

 "موت فى عزّ خير من حياة فى ذل"

 

نهاية أعزائى: فماذا يبقى إذن للإنسان إن فقد كرامته أو خلعها على أبواب شهواته و رغباته وحاجاته أياً كانت أهميتها و قيمتها؟

فقد كرم الكريم الإنسان ومنحه شرف الكرامة واختصه بنعم كثيرة لم يختص بها أحداً من سائر مخلوقاته، فهل يحفظها هذا الإنسان ويقدر قيمتها ويترفع عن كل ما يسلبه إياها، فعندما يصون المرء كرامته فهو يعلن شكره وامتنانه لله الكريم

فقد أخرج الله إبليس من رحمته وحرم عليه جنته لأنه لم يعترف للإنسان بالكرامة.

 

و خير ختام لمقال اليوم عن فضيلة الكرامة، كلمات النبى الكريم صلوات الله وسلامه عليه إذ قال : «اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس فإن الأمور تجرى بمقادير»

 

 وإلى لقاء قريب مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق .







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة