"البحث عن فضيحة".. عنوان يمكننا أن نطلقه على الأزمة الراهنة داخل أروقة السياسة الأمريكية، بعدما أعلن الكونجرس بأغلبيته الديمقراطية عن حملة جديدة لعزل الرئيس دونالد ترامب، على خلفية اتصال هاتفى جمعه مع نظيره الأوكرانى فلاديمير زيلنيسكى، تناول، بحسب المتداول، أنشطة مشبوهة لنجل نائب الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن، والمرشح الأوفر حظا لتمثيل الديمقراطيين فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، والمقررة فى العام المقبل، ربما لتفتح الباب أمام العديد من الإجراءات التى ربما تحتاج إلى وقت قد يتجاوز موعد الانتخابات المقبلة، وهو ما يفتح الباب أمام تساؤلات عدة حول الهدف من وراء مثل هذه الحملة فى الوقت الراهن، مع بداية الحملات الانتخابية للمرشحين الديمقراطيين.
ولعل الحديث عن عزل ترامب، يبقى دربا من الخيال، خاصة وأن أغلبية مجلس الشيوخ الأمريكى، وهو صاحب الكلمة الفصل فى مثل هذا القرار، من الحزب الجمهورى الذى ينتمى إليه الرئيس الأمريكى، وهو الأمر الذى تدركه رئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسى، وغيرها من قيادات الحزب الديمقراطى، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لأهداف أخرى، تتجاوز مسألة إقالة الرئيس، والتى سبق وأن فشلوا فيها من قبل، على خلفية قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية الأخيرة، والتى فاز فيها ترامب على حساب غريمته الديمقراطية هيلارى كلينتون، إلى أغراض انتخابية ترتبط إلى حد كبير بالانتخابات القادمة أو ما بعدها، فى ظل فشلهم فى مجاراته سواء فى مواقفه التى ينتصر فيها للمواطن، على حساب المبادئ التى طالما تشدق بها أسلافه، والتى دفعت أمريكا إلى أتون من الخسائر الاقتصادية والعسكرية، بالإضافة إلى خسارتها جزءا كبيرا من إمكاناتها الدولية، مع صعود قوى أخرى، أصبحت تزاحم واشنطن على قمة النظام الدولى، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبى وروسيا والصين.
استلهام فضائح الماضى.. عزل ترامب ليس الهدف وراء حملات الديمقراطيين
يبدو أن الديمقراطيين يراهنون على تشويه صورة ترامب، باعتبارها الورقة الرابحة فى المرحلة الراهنة، للانتقاض من شعبيته، عبر استلهام دروس الماضى، من خلال البحث عن فضائح، على غرار فضيحة "وترجيت"، والتى أطاحت بالرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، والذى كان ينتمى إلى الحزب الجمهورى، والتى أدت فى نهاية المطاف إلى استقالته، فى السبعينات من القرن الماضى، إثر تجسسه، خلال حملته الانتخابية على مقار الحزب الديمقراطى، ليستقيل بعدها قبل استكمال فترته الرئاسية الثانية، تاركا منصبه إلى نائبه فى ذلك الوقت جيرالد فورد، ليفوز الرئيس الديمقراطى جيمى كارتر، بالانتخابات اللاحقة التى عقدت فى عام 1976.
نيكسون يستقيل.. مانشيت صحيفة نيويورك تايمز بعد استقالة الرئيس الأسبق
الأمر لا يقتصر على فضيحة "وتر جيت"، وإنما هناك فضيحة مونيكا التى لاحقت الرئيس الديمقراطى الأسبق بيل كلينتون، على خلفية تحرشه بمديرة مكتبه آنذاك، وحنثه باليمين، وهى الفضيحة التى لم تؤدى إلى عزله، ولكنها كانت بمثابة صدمة كبيرة فى الشارع الأمريكى، دفعت المواطنين إلى انتخاب رئيس جمهورى، وهو جورج بوش الابن.
وهنا يمكننا القول بأن "البحث عن فضيحة"، أصبحت بمثابة سياسة يسعى الديمقراطيون إلى انتهاجها فى المرحلة الراهنة، خاصة وأنها إن لم تؤدى إلى عزل الرئيس، على غرار ما حدث مع نيكسون، فإنها يمكن أن تكون سببا لدفع المواطن نحو التصويت للحزب المنافس، فى الانتخابات اللاحقة، وهو الأمر الذى راهن عليه الديمقراطيون منذ بداية حقبة ترامب، سواء عبر التلويح بقضية التواطؤ مع روسيا تارة، مرورا بالحديث عن السلوك الشخصى للرئيس تارة أخرى، وانتهاءا بأزمة الاتصال الهاتفى مع الرئيس الأوكرانى.
رهان الديمقراطيين.. البحث عن المستقبل
رهان الديمقراطيين، وراء الحملة التى أطلقتها رئيسة مجلس النواب نانسى بيلوسى مؤخرا، ربما ليس على عزل الرئيس أو إقالته من منصبه، خاصة مع استحالة تحقيق هذا الهدف، بينما يبقى الهدف الرئيسى أن يجدوا لأنفسهم مكانا فى المستقبل، وإن لم يكن فى الانتخابات المقبلة، خاصة مع صعوبة فرصتهم فى الفوز على حساب ترامب، والذى يحظى بحالة من الرضا فى الشارع الأمريكى، مع ارتفاع معدلات النمو الاقتصادى، ونجاحه فى تحقيق العديد من أهداف المواطن الأمريكى، وعلى رأسها احتواء ظاهرة الهجرة، فى الوقت الذى يحاول فيه خصومه فى عرقلة تلك الجهود، وهو ما بدا واضحا فى موقفهم الرافض لبناء جدار عازل على الحدود مع المكسيك، وهو ما دفع ترامب فى نهاية المطاف إلى مخاطبة المواطنين مباشرة، لفرض حالة الطوارئ لتجاوز الكونجرس.
صراع ترامب وبيلوسى هيمن على المشهد الأمريكى فى السنوات الماضية
يبدو أن ترامب ليس العائق الوحيد أمام الديمقراطيين للمنافسة على عرش البيت الأبيض، فى الانتخابات القادمة، حيث أن هناك حالة من الانقسام والتشرذم تضرب أروقة الحزب، مع صعود تيار من الشباب، يحاول الانتصار للمرشح بيرنى ساندرز، فى مواجهة قوية مع من يمكننا تسميتهم بـ"جيل العواجيز"، والذى يبقى داعما لبايدن، وهو الأمر الذى يقوض فرصة الحزب فى الوصول إلى الرئاسة، وبالتالى فإن خطة الديمقراطيين تحمل مدى أبعد، ربما تتجاوز انتخابات الكونجرس المقبلة، والتى يسعون فيها للحصول على الأغلبية فى مجلسيه (النواب والشيوخ)، بالإضافة إلى انتخابات الرئاسة 2024، والتى تعد الأخيرة لترامب، إذا ما فاز فى الانتخابات المقبلة.
معضلة الإرث.. إنجازات ترامب كابوس خصومه
ولعل السبب الرئيسى فى حالة الهلع لدى الديمقراطيين من جراء بقاء ترامب فى السلطة تتمثل فى سياساته التى يتحرك فيها على مسارين مزدوجين، الأول يتمثل فى تحقيق الانجازات التى يشعر بها المواطن خاصة على الصعيد الاقتصادى، بينما الثانى هو سعيه الدؤوب نحو تقويض إرث أسلافه، وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما، بالإضافة إلى حمايته لإرثه عبر تحصين مؤسسة القضاء بشخصيات معروفة بأفكارها المتوائمة معه، وبالتالى فهو يسعى لضمان بقاء إرثه لأطول فترة ممكنه ربما تتجاوز عقود طويلة من الزمن.
ترامب نجح فى تقويض إرث أوباما وأثار هلع الديمقراطيين
يبدو أن مسألة الإرث كانت تمثل أولوية قصوى لدى الرئيس ترامب منذ بداية حقبته، حيث أنه سعى إلى تقويض كل ما تحقق عبر الإدارات السابقة، خاصة إدارة أوباما، وهو ما يبدو واضحا فى انسحابه من الاتفاق النووى الإيرانى، والتى طالما تشدق بها الديمقراطيون باعتبارها أحد أكبر إنجازاتها، بالإضافة إلى انسحابه من اتفاقية باريس المناخية، وكذلك سعيه لإلغاء نظام التأمين الصحى الذى أرساه أوباما، بالإضافة إلى انقلابه على نظرية النفوذ العسكرى، والتى روج لها الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء عبر توسيع الوجود العسكرى الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، وهى الخطوات التى لاقت إشادة كبيرة من قبل الأمريكيين فى السنوات الماضية.