"قمة روسيا أفريقيا" عنوان ربما يتصدر الصحف العالمية، فى ظل المساعى الروسية لتوسيع نفوذها فى العديد من مناطق العالم، على حساب منافسيها الدوليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وذلك بعد النجاح المنقطع النظير الذى حققه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى إثبات وجوده على الساحة الدولية فى السنوات الماضية، عبر استعادة التأثير الروسى على الساحة الدولية، وأخرها فى سوريا، والتى استأثرت موسكو بها على الأرض، خاصة بعد الانسحاب الأمريكى، ليفتح الباب أمام مزاحمة النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط، بعد عقود طويلة من الزمن، كانت الهيمنة الكاملة فيها لواشنطن، باعتبارها القوى الدولية الوحيدة فى صدارة المشهد الدولى، منذ نهاية الحرب الباردة، والتى كتبت كلمة النهاية للإمبراطورية السوفيتية، فى التسعينات من القرن الماضى.
ولعل انعقاد القمة المرتقبة فى "سوتشى" يمثل استمرارا للسياسة الروسية التى اعتمدت المنتجع باعتباره مقرا للقمم ذات الطبيعة الخاصة، بما يؤهله ليكون بمثابة رمزا لقوة الدبلوماسية الروسية، بما يتناسب مع الطموحات الروسية غير المحدودة، لاستعادة أمجادها على الصعيد الدولى، فى مناطق مختلفة حول العالم، بالإضافة إلى تقديمه كبديل لـ"كامب ديفيد"، والذى طالما كان شاهدا على العديد من الأحداث الدولية الهامة، التى كانت تمثل انعكاسا صريحا للقوى الأمريكية وتأثيرها على العالم، ربما أبرزها معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والتى يرجع تاريخها إلى مارس 1979، بالإضافة إلى قمة كامب ديفيد بين الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون، ونظيره الفلسطينى ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق إيهود بارك فى عام 2000، كما أنه كان مقرا لقمم تاريخية أخرى، بينها لقاء الرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت، مع رئيس الوزراء البريطانى وينستون تشرشل عام 1943 للتخطيط لغزو الحلفاء لأوروبا إبان الحرب العالمية الثانية.
تشابهات كبيرة.. سوتشى مقرا للقمم الحساسة
يبدو أن التشابهات الكبيرة بين "سوتشى" وكامب ديفيد، كانت السبب الرئيسى وراء اختيار بوتين للمنتجع الروسى، ليكون شاهدا على قوة روسيا الجديدة، أو بالأحرى استعادتها لنفوذها الدولى بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفيتى، فكلاهما يتمتع بالهدوء وجمال الطبيعة، وبالتالى فكلاهما يحظى بطبيعته الخاصة، بعيدا عن صخب العاصمة، ليكونا أكثر ملائمة للقاءات ذات الطبيعة الخاصة، والتى تحتاج فيها المفاوضات الصعبة إلى أجواء هادئة، فضلا عن ارتياح الرئيس الروسى الشخصى للمنتجع، وهو الأمر الذى يفسر تردده الدائم عليه، وحرصه على عقد اللقاءات مع نظرائه به، فى العديد من المناسبات.
لقاءات بوتين فى سوتشى تتسم بقدر كبير من الحساسية، وعلى رأسها القمم التى تعلقت بالأزمة السورية، والتى كانت محور الاهتمام الروسى فى السنوات الماضية، باعتبارها بوابة العودة إلى صدارة المشهد الدولى من جديد، من بينها عدد من القمم الثلاثية التى عقدها الرئيس الروسى مع نظيريه التركى والإيرانى، بالإضافة إلى لقاءاته المتواترة مع العديد من القيادات الإقليمية، وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسى، وولى العهد السعودى محمد بن سلمان، وكذلك الرئيس السورى بشار الأسد، بالإضافة إلى عدد من القيادات الغربية، من بينهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وغيرها.
سوتشى منافسا لـ"كامب ديفيد".. أفريقيا أولوية لموسكو
تتجلى بوضوح القيمة الرمزية لـ"سوتشى" باعتباره ليس فقط مجرد منتجعا مفضلا لبوتين، يمكن من خلاله استقبال ضيوفه، وعقد القمم فى منطقة أكثر هدوءا، وإنما تمتد أهميته إلى الترويج له باعتباره منافسا قويا لـ"كامب ديفيد"، والذى بقى لعقود طويلة رمزا للهيمنة الأمريكية، ومكانا للمفاوضات الماراثونية الصعبة التى خاضتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتحقيق مصالحها، ليصبح "سوتشى" رمزا جديدا لعودة روسيا إلى قمة المشهد الدولى، خاصة بعدما نجح الرئيس الروسى فى مزاحمة الدور الذى سبق وأن لعبته الولايات المتحدة، لإعادة تشكيل الخريطة الدولية لصالحها، إبان سيطرتها الكاملة على المشهد الدولى منذ نهاية الحرب الباردة، فى التشابه الكبير بين المنتجعين، على الأقل من ناحية ابتعادهما عن مركز الحكم فى العاصمة.
ويمثل اختيار "سوتشى" لانعقاد قمة "روسيا أفريقيا" انعكاسا صريحا لطبيعة الصراع الجديد الذى سوف تخوضه موسكو، فى المرحلة المقبلة، حيث تسعى الإدارة الروسية لكسب المزيد من النفوذ بالقارة السمراء، وإن كان الصراع على النفوذ فى أفريقيا يبدو مختلفا فى ظل تداخل القوى الدولية التى تسعى للفوز بالفرص الواعدة التى تحظى بها القارة، وعلى رأسها الصين واليابان، بالإضافة إلى الولايات المتحدة، كما أن توقيت القمة بالتزامن مع رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى يعكس قوة العلاقة بين القاهرة وموسكو، وهو ما بدا واضحا فى تواتر القمم بين الرئيس السيسى ونظيره الروسى فى السنوات الماضية.
قيمة رمزية.. بوتين يجد بدائل لـ"تابوهات" الغرب
وتمثل الإشارات الرمزية أحد أعمدة الدبلوماسية الروسية، فى تعاملها مع محيطها الدولى، وهو الأمر الذى يقتصر على مجرد تصعيد "سوتشى" من مجرد منتجع يطل على ساحل البحر الأسود، إلى مقرا للماراثونات الدبلوماسية التى تخوضها موسكو، ليضاهى نظيره الأمريكى "كامب ديفيد"، وإنما ظهرت بوضوح فى اختيار عاصمة كازاخستان "أستانا" لتكون مقرا للمفاوضات حول الأزمة السورية، والتى شهدت جولات تفاوضية عديدة، سواء بين المعارضة والنظام فى سوريا، برعاية الحكومة الروسية، لتكون بديلا لمنصة "جنيف"، والتى هيمنت على العديد من المحادثات السياسية، ليس فقط فيما يتعلق بالأزمة السورية، ولكن العديد من الأزمات الأخرى فى الشرق الأوسط، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
ولعل الدعم الذى قدمه بوتين لمبادرة نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، بتأسيس جيش أوروبى مشترك، رغم ما تحمله من عداء صريح لموسكو، تعكس حرصه الشديد على إيجاد البدائل لما يمكننا تسميته بـ"التابوهات" الغربية التقليدية، والتى يمثل بقائها تذكيرا دائما لروسيا بانهيار إمبراطورتيها السوفيتية، على اعتبار أن تشكيل مثل هذا الجيش يمثل نهاية حلف الناتو، والذى طالما بقى رمزا للمعسكر الغربى المنتصر إبان الحرب الباردة.
يبدو أن لجوء الرئيس الروسى إلى تقديم بدائل للثوابت الغربية، والتى اعتمدتها واشنطن وحلفائها فى التعامل مع العديد من القضايا الدولية، يهدف بصورة كبيرة إلى التأكيد على مكانة روسيا الجديدة باعتبارها أحد القوى الدولية المؤثرة، والتى يمكنها تغيير دفة المشهد الدولى لصالحها، وهو الأمر الذى ربما أصبح معترف به إلى حد كبير على المستوى الدولى، حتى من قبل الولايات المتحدة نفسها، والتى سعت مؤخرا نحو التوافق مع موسكو فيما يتعلق بالعديد من القضايا الدولية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة