تحتفل الأمة الإسلامية بل والبشرية جمعاء هذه الأيام بذكرى ميلاد أعظم وأطهر وأكمل وأشرف مخلوق على الإطلاق، الذى أشرقت أنواره فعمت جميع الوجود، وسرت أسرارُه فى رُوح كل موجود الذى أرسلُه ربه رحمةً للعالمين، وهدايةً للناس أجمعين، إنه رسولُ العنايةِ الربانية، ومنقذُ الأرواح الإنسانية، إنها ذكرى ميلادِ مولانا وشفيعنا وقدوتنا سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، نسألُ الله عز وجل أن تَعُمَّ هذه الذكرى العطرة بالخيرِ واليُمن والبركات على جميع أهلِ الإنسانية، ونسألُ الله تعالى أن يعمنا بالخيرِ والسلامِ والرخاءِ وأن يُجملَنا بأخلاقِ وسجايا المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم.
ونحن نحتفل بهذه الذكرى الكريمة العَطرة نريد أن نتعلمَ من سيرةِ المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن نتخلقَ بأخلاقِه الشريفة، وأن نبعثَ فى البشريةِ من جديدٍ معانى الخيرِ والعدلِ والسلامِ والأمنِ والسكينةِ والرحمةِ التى أرساها المصطفى صلى الله عليه وسلم وبُعثَ بها، وبذَلها لجميعِ العوالمِ والكائناتِ حتَّى جمع اللهُ جميعَ مقاصدِ رسالتِهِ الغراءِ فى قوله تعالى «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».
فمنذ أن منَّ الله سبحانه وتعالى على البشرية ببعثة النبى المصطفى ﷺ، وعلى مدى ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان، مثَّلت السيرة النبوية الشريفة لأمة الإسلام معالم الرحمة الإلهية المهداة إلى البشر، وقد تجسَّد فى هذه السيرة الكريمة المثال الأسمى لمعانى الكمال البشرى المتصل بالوحى الإلهي، والذى تجلى فى شخص النبى ﷺ بأقواله وأفعاله وأحواله وشمائله الشريفة.
ولقد كانت سيرة المصطفى ﷺ بمعانيها وأحداثها ووقائعها منهج حياة متكامل للمسلمين، ونبراسًا يضىء الطريق ويهدى القلوب الحائرة، وينتشل العقول الضالة، يلمح فيه الناظر نموذج حياة المسلمين فى مكة أوائل الدعوة النبوية، ونموذج هجرتهم الأولى إلى الحبشة وحياتهم فيها، ثم بعد ذلك هجرة النبى ﷺ والصحابة الكرام رضى الله عنهم للمدينة واستقرارهم وجهادهم، واكتمال أمر الدين ورسوخ الأحكام الشرعية.
وبالنظر لهذه النماذج الحياتية من السيرة نجد أنها احتوت على مناهج متعددة، تتناول السياسية الداخلية والخارجية، وإدارة النواحى العسكرية، وعلاج المشكلات وإدارة الأزمات على المستوى الفردى والجماعى، حيث استوعبت هذه النماذج المشرقة من السيرة النبوية معالم الدين الإسلامى وشريعته وكيفية تطبيقه على جميع المستويات.
وقد استمرت الأمة على مرِّ القرون تنهل من هذا المورد العذب، وتستنبط من نماذج السيرة معانى معرفة الله وتوحيده وعلاقة الإنسان بربه، ومبادئ تزكية النفوس وتربيتها وتطهير القلوب، وعلاج أمراض النفوس والمجتمعات، وبناء العقلية المسلمة الواعية، وتستخرج منها المبادئ العامة للقيم والأخلاق والأحكام الشرعية التى تقوم عليها الحياة المستقيمة والمجتمعات المستقرة والعلاقات الإنسانية بين البشر.
ثم حدث بعد ذلك أن ابتليت الأمة الإسلامية ببعض الطوائف الضالة والجماعات والتيارات المنحرفة التى انحرفت بمعانى هذه النماذج المشرقة من السيرة النبوية فكونت بفهمها المغلوط أيديولوجية فكرية منحرفة ذات مراحل وأهداف، وهى فى هذا كله تنسب ضلالتها لسيرة النبى ﷺ، فبدلت المعانى حيث عملت على إسقاط أحداث السيرة المطهرة ووقائعها على أهدافها وآليات عملها الباطل، واستنطقت أحداث السيرة النبوية بما لم تقله ولا تدل عليه، وقامت باجتزاء بعض أحداث السيرة من سياقها لتجعل منها دليلًا على منهجها الضال، فأنزلت المعانى السامية فى قوالب فكرية منحرفة يتم استدعائها وقتما تشاء.
ونتيجة لذلك الانحراف تحوَّلت معانى السيرة النبوية وأحداثها على يد هذه الجماعات من منهج حياة متكامل متصل بالوحى الإلهى إلى منهج حركى بشرى، يخضع للأهواء والأفكار المنحرفة، ويهدف إلى تحقيق أهداف دنيوية باسم الدين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة