اعتراف ربما جاء متأخرا لأكثر من قرن من الزمان، من قبل مجلس النواب الأمريكى، باعتبار الجرائم التى ارتكبتها السلطنة العثمانية بحق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، وتحديدا فى الفترة بين عامى 1915 و1917، "إبادة جماعية"، يمثل صفعة جديدة للديكتاتور التركى رجب طيب أردوغان، والذى يجد نفسه، فى المرحلة الراهنة، ملاحقا بالصفعات، سواء من الحليف الأمريكى، أو من جانب موسكو، خاصة وأن القرار يأتى فى أعقاب إجباره من قبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب على الاستجابة لوقف إطلاق النار فى منطقة شمال سوريا، بعدما شن عدوانا عليها، فى محاولة يائسة لإحياء تنظيم داعش الإرهابى من جديد.
المفارقة الجديرة بالملاحظة فى القرار الأمريكى، أنه لم يأت هذه المرة من قبل الرئيس ترامب، والذى اعتاد على صفع أردوغان، فى العديد من المواقف السابقة، لا تقتصر على الموقف من العدوان التركى على شمال سوريا، حيث سبقها قضية القس الأمريكى أندرو برنسون، والذى أدى تعنت أنقرة فى الإفراج عنه إلى قيام واشنطن بفرض عقوبات على النظام التركى، بالإضافة إلى وضع تعريفات جمركية على الصادرات التركية إلى الولايات المتحدة، فى ضربة تبدو قاصمة لاقتصاد أنقرة، دفعتها إلى الرضوخ فى نهاية المطاف عبر الإفراج عنه وإعادته إلى بلاده، ولكنها جاءت من قبل مجلس النواب، والذى يحظى بأغلبية ديمقراطية، فى محاولة صريحة للمزايدة على مواقف الإدارة (الجمهورية) تجاه الديكتاتور، قبل حوالى عام واحد من الانتخابات الرئاسية المرتقبة فى نوفمبر من العام المقبل.
من التحالف إلى العداوة.. الديمقراطيون يتبرؤون من إرث أوباما
قرار مجلس النواب الأمريكى، ذو الأغلبية الديمقراطية، من تركيا يبدو متوائما إلى حد كبير مع الانتقادات التى كالها زعماؤهم للرئيس الأمريكى فى الأسابيع الماضية، خاصة مع بداية العدوان التركى، والذى تزامن مع قرار الانسحاب الأمريكى من سوريا، حيث اعتبروا الخطوة التى اتخذها ترامب دعما لأنقرة، على حساب الأكراد، والذين لعبوا دورا رئيسيا فى دعم القوات الأمريكية فى حربها ضد داعش بمنطقة شمال سوريا، وهو الأمر الذى أثبت ترامب عدم صحته بعدها بأيام قليلة، عندما لوح بعصا العقوبات فى مواجهة النظام التركى إذا لم تلتزم أنقرة بوقف إطلاق النار فى شمال سوريا، وهو الأمر الذى لم يجد أردوغان بديلا سوى الالتزام به صاغرا فى نهاية المطاف.
أوباما اعتمد أردوغان كأقوى حلفائه فى الشرق الأوسط
ولكن لو نظرنا إلى مواقف الديمقراطيين فى السنوات الأخيرة، ربما نرى القرار الأخير من منظور مختلف، حيث اعتبرت الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة أوباما، تركيا الحليف الرئيسى لها فى منطقة الشرق الأوسط، على حساب القوى الإقليمية الرئيسية فى المنطقة، وعلى رأسها مصر والمملكة العربية السعودية، خاصة وأن النظام التركى بدا متوائما إلى حد كبير مع الأهداف التى تبناها أوباما، والتى قامت فى الأساس على دعم التيارات المتطرفة، مقابل التزامهم بتحقيق الأجندة الأمريكية، عبر إثارة الفوضى فى دول المنطقة فى سبيل إعادة تقسيمها.
الإبادة العثمانية.. بايدن يقوض مصداقية خصوم ترامب
دعم أوباما لأنقرة بدا واضحا منذ اليوم الأول له على رأس الإدارة الأمريكية، حيث حرص على زيارة تركية فى أول جولة خارجية له، فى أبريل 2009، حيث وصفها خلال لقائه مع أردوغان بـ"الواحة" التى التقت بها مبادئ الديمقراطية الغربية مع تعاليم الإسلام، فى إشارة واضحة على نية واشنطن لدعم التيارات التى تحمل الشعارات الدينية، وهو ما اتضح فيما بعد إبان ما يسمى بـ"الربيع العربى"، والذى فتح الباب أمام العديد من تيارات "الإسلام السياسى" للسيطرة على مقاليد الحكم فى العديد من دول المنطقة، بينما كانت مسألة الاعتراف بـ"الإبادة العثمانية" للأرمن على أجندته الانتخابية فى حملته التى أطلقها 2008، للفوز بعرش البيت الأبيض، إلا أنه نكث بعهده بعد ذلك، مكتفيا بوصفها بـ"المذبحة المروعة" فى كلمته التى تزامنت مع مئوية جرائم العثمانيين بحق الأرمن، فى أبريل 2015.
مجلس النواب الأمريكى
يبدو أن توقيت القرار الذى اتخذه مجلس النواب الأمريكى يحمل فى طياته العديد من الأهداف، وأبرزها التبرؤ، على الأقل شكليا من إرث الإدارة السابقة، والتى اعتمدت التحالف مع تركيا، وذلك بالرغم من أن أبرز المرشحين الديمقراطيين للمنافسة فى الانتخابات المقبلة هو جو بايدن، والذى شغل منصب نائب أوباما، وهو ما يمثل امتدادا للازدواجية التى اتسم بها الديمقراطيون فى التعامل مع كافة القضايا، وهو ما يساهم فى تقويض مصداقيتهم أمام المواطنين الأمريكيين، إلى جانب التغطية على القفزات الكبيرة التى حققها ترامب فى الشارع الأمريكى، خاصة بعدما تمكنت قواته من قتل زعيم داعش أبو بكر البغدادى، والذى كان أبرز أذرع الديكتاتور العثمانى المزعوم فى أنقرة.
انتصار ترامب.. الرئيس الأمريكى أجبر خصومه على البقاء خلفه
وهنا يكمن النجاح الكبير الذى حققه الرئيس ترامب، فى صراعه الحالى مع الديمقراطيين، حيث إنه تمكن من إجبارهم على البقاء خلفه بخطوة، بحيث تكون كافة الخطوات التى يقومون بها مجرد ردود أفعال، وهو ما بدا واضحا فى محاولاته لشخصنة الانتقادات التى أطلقها بحق العديد من قيادات الحزب الديمقراطى، سواء من منافسيه فى الانتخابات المقبلة، أو رموزهم الآخرين، دافعا إياهم للرد عليه بعيدا عن تقديم أجندة انتخابية واضحة يمكنهم من خلالها إقناع المواطن الأمريكى بأحقيتهم بالصعود للبيت الأبيض، بالإضافة إلى نجاحه الساحق فى تكذيب ادعاءاتهم الأخيرة، والتى دارت حول دعم أنقرة أو التخلى عن الأكراد، عبر ضربات نوعية محكمة دفعتهم فى النهاية إلى اتخاذ القرار بإدانة "الإبادة العثمانية"، حتى يمكنهم مجاراته أمام الشارع.
القرار يمثل فى حقيقته صفعة جديدة للرئيس التركى رجب طيب أردوغان، خاصة وأنه يمثل حلقة جديدة من مسلسل الضغط الدولى المستمر، كما أنه يمثل خطوة كبيرة للوراء، من قبل خصوم ترامب، والذين تخلوا تماما مجبرين عن حليفهم، الذى طالما اعتمدوا عليه لتحقيق رؤيتهم فى منطقة الشرق الأوسط، وبالتالى يبقى الرئيس الأمريكى هو المنتصر الأكبر من القرار الذى اتخذه مجلس النواب، لأنه يقدم دليلا صريحا على صحة رؤيته فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الديكتاتور التركى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة