عنما تولى فلاديمير بوتين السلطة فى الكرملين، كان يعرف أن هناك نقاط ضعف كثيرة في بنيان الدولة الروسية، أكثر ها خطرا هو بناء الصورة الدعائية فى الداخل والخارج.
فقط كان يعرف ان الاتحاد السوفيتى لم يسقط بحرب ولا سلاح نووى، لكنه تساقط قطعة وراء أخرى تحت ضربات ماكينة الدعاية والقوة الناعمة الأمريكية. فقد كانت توقعات منظرى الاشتراكية الكبار ترسم سيناريو هزيمة المعسكر الشيوعى بالنقاط الدعائية. وفى ربيع 1986 التقطت المخابرات المركزية الامريكية فيديو للمنظر الاشتراكى الفرنسى البارز ريجيس دوبريه، يقول فيه» هناك قوة فى فيديو موسيقى الروك والأفلام، وبنطلونات الجينز، والوجبات السريعة، وشبكات الأخبار ومحطات التليفزيون، أكبر من الجيش الأحمر كله» وبعد ثلاث سنوات سقط سور برلين، من دون قصف مدفعى او صاروخى لكن بالدعاية الأمريكية ثلاث سنوات أخرى وانهار الاتحاد السوفيتي.
عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار المعسكر الشرقى، كانت الدعاية الغربية تعلن ان شباب الاتحاد السوفيتى وروسيا كانوا يتشوقون الى شكل الحياة الأمريكية الكوكاكولا والسينما الهوليودية والرقصات والملابس ونمط حياة روجته هوليود وصنعت اشواقا لدى الشباب فى المعسكر الشرقى السابق. ومن الواضح ان الضابط الصغير فى الكى جى بى، ربما اطلع على تنظيرات دوبرييه، وكان يعلم قوة ماكينات الدعاية الغربية هى التى اسقطت سور برلين ومن بعده امبراطورية السوفييت واذا استمر الوضع فإنها سوف تأتى على جمهوريات روسيا نفسها. ولهذا كان عليه ان يقوم بإخضاع الاشواق الروسية الجديدة لقوانين تدفعها الى مسارات جديدة.
وبالطبع شاهد بوتين شاهد بنفسه مصير جورباتشوف ويلتسين نجما ماكينات الدعاية الغربية وكيف تم التخلص منهما. ميخائيل جورباتشوف آخر زعماء السوفييت ظل يحظى بحفاوة أمريكية وغربية، وحصل على جائزة نوبل، و اعترف بعد سنوات بأنه كان مسؤولا عن إنهاء القوة العظمى الثانية، وبدا ان احتفاء أمريكا به وبأفكاره كان تكتيكا يمهد للدعاية الغربية دك حصون ونفسيات المواطنين السوفييت، وتنمية أشواقهم للعالم الغربى المثالى بحرياته وصوره وأفلامه وملابسه. مجتمع الوفرة والسعادة والحريات مقابل سور حديدي مغلق يحجب عن السوفييت خيرات العالم الغربى.
بعد اختفاء الستار الحديدى، لم تقدم أمريكا واقعا لأساطيرها الملونة وكما كتب«نيثان جرديلز» و«مايك ميدافوى» فى كتاب «الإعلام الأمريكى بعد العراق.. حرب القوة الناعمة» فقد اصيب النموذج الناعم لأمريكا بشروخ، فى وقت التقط بوتين سلاح الدعاية كأحد اهم الادوات فى سباق النفوذ. وبينما كانت الولايات المتحدة تغرق فى غزوات مابعد 11 سبتمبر كان بوتين يستعد لبناء صورته والمشاركة فى رواية القصة الخاصة.
فقد عرف فلاديمير بوتين أن أمريكا كسبت الحرب الباردة بالدعاية، واكتشف حاجته لأذرع إعلامية دعائية، أو الثورة الدعائية ما بعد الحرب الباردة» حسب وصف المحللين الأمريكيين. فى الوقت الذى كانت أمريكا تواصل حروبها ، ظهرت شبكة روسيا اليوم RT، 2005، باللغات الإنجليزية والعربية والإسبانية، والألمانية والفرنسية، وغيرها، سجلت عام 2015 700 مليون مشاهد فى أكثر من 100 دولة، وتجاوز عدد مشاهديها 2017 مئات الملايين، وظهر الموقع الإخبارى «سبوتنيك»، عام 2012، وبدا مثيرا للدهشة أن تكون أدوات حديثة العهد قادرة على هزيمة ترسانة دعائية عريقة، و اعترف رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب فى معرض الشكوى من ضعف التأثير الدعائى الأمريكى بالفشل أمام الإعلام الروسى فى أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية من خلال قنوات RT، وكان هذا الفشل تأكيد لنجاح خطط بوتين واهمية امتلاك الدعاية مثل السلاح.
وبدا الأمر معكوسا فقد اصبحت الاجهزة الأمريكية تشكو من الدعاية الروسية، وتتهم قنوات روسيا اليوم بالتدخل فى السياسة والانتخابات الأمريكية، وارجعت هيلارى كلينتون خسارتها الى تدخلات روسية، وتحالف آلاف القراصنة وتسريبات ويكليكس، ومحطات روسيا اليوم وسبوتنيك، وسن الكونجرس قانون يصنف الإعلام الروسى باعتبارها إعلاما اجنبيا.
بدت خطة بوتين وماتعلمه من سقوط سور برلين هى بناء جهاز دعائى درسا مهما، فضلا عن درس آخر تعلمه، وهو عدم الاستناد لما يظهره المنافسون من مشاعر ود وترحيب فقد احتفوا بجورباتشوف ويلتسين، ومع الوقت تخصوا منهم بعد أدوار قصيرة. لقد كانت الدعاية فى اهمية منصات الصواريخ لضمان بناء الصورة داخليا وخارجيا.