إذا كان الحديث عن مرور 30 عاما على سقوط سور برلين ونهاية الحرب الباردة، فإن عالم السياسة والصراع لا يتوقف عن التفاعل، وما هو مستحيل قبل 30 عاما لا يكون كذلك اليوم، وإن بناء الصورة الخاصة بكل دولة هو جزء من قدرتها على التواجد فى عالم لا يتعاطف مع الضعيف.
روسيا ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتى كانت مجرد بقايا دولة ضعيفة تخضع لحكم ضعيف فاسد، الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين يظهر طوال الوقت فى حالة سكر ويترنح وهو يلقى خطبه، أفاق الروس من نشوة الابتهاج بالحرية والرقص والكوكاكولا، على الأزمة الاقتصادية الطاحنة تسحق الروس الأغلبية من العاملين فى القطاعات الصناعية والخدمية، والثروة تتركز فى أيدى أعداد قليلة من كبار المسؤولين السابقين فى الدولة الذين كيفوا حياتهم على تفكيك روسيا وتحصيل أكبر قدر من الأرباح.
يلتسين كان قد بدأ عملية مصادرة للحريات وترك حرية السوق بلا سيطرة، الأمر الذى انعكس فى أزمة طاحنة وتراجع فى دخل العمال والطبقات الوسطى.وعندما جاء بوتين كان هو نفسه رئيسا لجهاز الأمن الروسى، ثم رئيسًا للوزراء مع يلتسين، وخلال فترات حكمه خاض حروبا فى الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وتوسع فى الصناعات العسكرية، وحاول تطويرها لتكون مناسبة أكثر للتطور التكنولوجى وقابلة للبيع، فضلا عن تطوير أنظمة الدفاع الصاروخى بشكل تفوق على نظيره الأمريكى.
المحللون الغربيون يرون أن بوتين جمع بين الاتجاهين السلطوى والرأسمالى من دون أن يستسلم للماضى، فقد أغلق ملف يلتسين ولم يسع لاستعادة الجمهوريات السوفيتية التى انفصلت، ولكنه ركز فى استعادة قوة الاتحاد الروسى الذى كان مهددًا.
ولهذا حرص بوتين على تحقيق سيطرة كاملة، لا هوادةَ فيها، على المجتمع المدنى وحقوق الإنسان. ألغى حقَّ التجمّع العام والتظاهر، وأصبح لزاماً على مُنظّمى التظاهرات أن يحصلوا على إذنٍ من السلطات أولاً. كما فرض رقابة على شبكات التواصل الاجتماعى وسن قانونا يحظُر الإساءةَ للمسؤولين على الإنترنت، واللافت أن محللين غربيين ممن انتقدوا تسلط بوتين أشاروا إلى أنه جاء بعد مرحلة شعر فيها الروس بالفوضى وحسب محللين غربيين فإنه بعد اضطرابات عقد التسعينيات، تاقت الأمة الروسية للنظامِ ولليدِ القوية والاستقرار. كانت الأغلبية مستعدّة لغَضّ الطرف عن أى انتهاكات، فى مقابل تحقيق أوضاع اقتصادية أفضل، وقد حققت سياسة بوتين بالفعل تحسنا اقتصاديا ملحوظا، فضلا عن أنها بنت استقرارا وأنهت الكثير من مظاهر الإجرام والفوضى التى سادت فى العشرية الأولى ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتى.
ظلت صورة بوتين لدى الإعلام الغربى هى صورة المتسلط الذى لا يحظى باهتمام كبير من الغرب والذى يسعى إلى الإمساك بكل الخيوط فى يده، ويواجه بشكل تدريجى من يرى أنهم يعرقلون خطط بناء روسيا أكثر قوة، لم يهتم بوتين بأن يحظى بتصفيق غربى، وقد رأى بنفسه كيف صفق الغرب لجورباتشوف ويلتسين وسهلا لكل منهما مهمة تفكيك روسيا، ثم مع الوقت تاركا كل منهما لمصيره، وقد اعترف جورباتشوف بعد سنوات بأنه تحول تحت الأضواء إلى ألعوبة.. وقال فى مذكراته «جورباتشوف فى الحياة» إنه يشعر بمسؤوليته عن انهيار الاتحاد السوفيتى، فقد تم إنهاء الدولة، ليحل مكانها «كيان هلامى ». وقد أجبر يلتسين جورباتشوف فى 26 ديسمبر 1991 بشكل مهين على توقيع قرار إنهاء الاتحاد السوفيتى، وعندما انتبه إلى لعبة كان الوقت فات، ومع يلتسين بدأت عملية استكمال التفكيك.
بوتين لم يحاول التصادم مع الغرب فيما يتعلق بالمساعى الإقليمية واكتفى فى البداية بإخضاع التمرد فى الشيشان، وجورجيا وأوكرانيا وهى حروب أعلن دائما أنها تتعلق بالأمن القومى، وخلال هذه الفترة كان يفرض سيطرته على الإعلام الداخلى والأصوات التى كانت تدافع عمن يراهم الروس خصوما ومتمردين أو تابعين للغرب، كانت الولايات المتحدة وأوروبا قد دعموا الاتجاهات الأقرب للتوجه الغربى والتى تتجاوز النعرات القومية والوطنية، واندفع أكثر نحو نموذج غربى فيما يرى بوتين والتيار القومى الروسىأانهم ينفذون خطط تفكيك الاتحاد بزرع النعرات العرقية وإضعاف الروح الروسية.
وقبل أن يبدأ مرحلة التوسع الإقليمى والمنافسة على النفوذ، بدأ فى بناء جهاز إعلامى يدعم صورته الإقليمية والدولية من خلال شبكات فضائية أهمها «روسيا اليوم» بكل اللغات الحية، ومنصات على شبكات الإنترنت، وشبكات لمواجهة القرصنة الإلكترونية هجوما ودفاعا، ومنذ 2005 بدأت عملية بناء الشبكة الإعلامية لتواجه المنصات الدولية، ومع الوقت نجحت هذه المنصات بالفعل فى مساندة السياسات الروسية وتحركات بوتين، ولهذا عندما شنت الولايات المتحدة والغرب حملات هجومية على سياسات روسيا فى أوكرانيا وسوريا، وواجهت منصات بوتين منصات غربية، كانت دائما قادرة على السيادة فى سماوات الدعاية.