في الوقت الذى أعلن فيه الرئيس البوليفى السابق إيفو موراليس المناهض لواشنطن، استقالته من حكم البلاد إثر انتفاضة شعبية أطاحت به، لتحصل الولايات المتحدة على نقطة إضافية في صراع النفوذ في أمريكا اللاتينية، قام الرئيس الروسى فلاديمير بوتين بزيارة إلى البرازيل، لحضور قمة "بريكس"، ليحمل التزامن (غير المقصود) إشارات واضحة تدور حول احتدام التنافس الدولى في تلك المنطقة، في توقيت يبدو حساسا للغاية، يمكننا تسميته بـ"مرحلة الإعداد للصراع القادم".
ولعل التنافس الأمريكي الروسى، والمتمثل في سعى كلا القوتين نحو مزاحمة الأخر في محيطه الجغرافى، ليس بالأمر الجديد تماما، حيث اتجهت واشنطن نحو تلك السياسة منذ سنوات، سواء عبر توسع حلف الناتو تارة، والاتحاد الأوروبى تارة أخرى، في دول أوروبا الشرقية، بينما احتفظت روسيا بعلاقاتها بالقوى اللاتينية ذات التوجهات الشيوعية عبر دعمها سياسيا، وربما عسكريا ولكن على نطاق محدود، وهو ما بدا مثلا في المناوشات الكللامية، والتحركات العسكرية التي شهدتها فنزويلا إبان ذروة أزمتها السياسية لدعم الرئيس الموالى لها نيكولاس مادورو، بعدما أعلن زعيم المعارضة خوان جوايدو نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد، وفوزه بالاعتراف الأمريكي وعدد من دول أوروبا الغربية.
إلا أن استخدام الورقة العسكرية ربما لم يعد الورقة الرابحة الوحيدة في الصراع الجديد، والذى مازال في طور التحضير، بين أمريكا وروسيا، والتي تشهد علاقتهما في الآونة الحالية قدرا من التنسيق غير المسبوق في العديد من القضايا الدولية، في إطار ما يمكننا تسميته بـ"توزيع مناطق النفوذ في العالم" حيث نجد أن الولايات المتحدة تراجعت طواعية عن الوجود العسكرى في سوريا، قبولا للأمر الواقع، في ظل نجاح موسكو في فرض سيطرتها على الأوضاع هناك، بينما نجد مباركة روسية ضمنية للتوجهات الأمريكية الجديدة القائمة على إعادة هيكلة الاتفاقات الدولية، وعلى رأسها معاهدة الأسلحة النووية، والتي أكد الرئيس الروسى فلاديمير بوتين استعداده لتوسيع المشاركة بها، شريطة دخول حلفاء واشنطن الأوروبيين كأطراف بها.
التباين في استخدام الورقة العسكرية يبدو واضحا في المواقف الأمريكية والروسية على حد سواء، ففي الوقت الذى انسحبت فيه واشنطن من سوريا، اتجهت نحو تأسيس قواعد عسكرية جديدة في بولندا، في خطوة مستفزة لموسكو، بينما نجد أن الروس الذين ركزوا على القوة العسكرية لمزاحمة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، اتجهوا نحو العلاقات القائمة على الاقتصاد والتجارة، مع أطراف دولية أخرى، من بينهم حلفاء واشنطن، سواء في أمريكا اللاتينية أو أعضاء الناتو، من بينهم دول أوروبا الغربية التي ارتبطت بعقود متعلقة بالطاقة مع روسيا، أو تركيا، والتي قامت مؤخرا بشراء صفقة صواريخ "إس 400" في انتهاك صريح لقواعد الحلف الذى طالما مثل رمزا تاريخيا للمعسكر الغربى.
وهنا يمكننا القول أن الصراع الجديد بين القوى الرئيسية في العالم لم يعد قاصرا على استخدام الورقة العسكرية، لتحقيق النفوذ الدولى، وإنما توارت تلك الورقة كثيرا خلف أدوات أخرى، بدأت الدول الاعتماد عليها، وعلى رأسها القوة الاقتصادية، وهو ما يبدو واضحا في التوجه الروسى الذى سبق وأن أشرنا إليه، وكذلك في الخطوات الأمريكية، والتي باتت تعتمد نفس النهج تجاه بعض المناطق، على غرار مبادرة "ازدهار أفريقيا"، والتي تقدمت بها الولايات المتحدة لتحقيق التقارب مع دول القارة السمراء، على حساب النهج القديم والذى قام على فكرة "عسكرة الدبلوماسية".