يبدو أن ظهور حركة السترات الصفراء إلى النور كان بمثابة نقطة تحول تاريخية سواء فى الداخل الفرنسى، أو على مستوى أوروبا بأسرها، ليس بسبب المظاهرات التى تمثل امتدادا لموجات من الغضب شهدتها دولا أخرى، بسبب سياسات الليبراليين المهادنة للهجرة تارة، والتراجع الاقتصادى تارة أخرى، والمخاوف الأمنية المرتبطة بانتشار الإرهاب تارة ثالثة، ولكن باعتبارها تطور فى شكل الحركات الاحتجاجية، لم تشهده القارة العجوز منذ عقود طويلة، لتخرج من الشكل العشوائى، إلى إطار أكثر تنظيما، أصبح يمثل تهديدا صريحا لاستقرار الأنظمة القائمة.
فعندما خرجت الحركة للمرة الأولى، قبل عام واحد، فى شوارع باريس، كان الزى الأصفر الموحد أهم ما يميزها، قبل أن يصبح استخدام العنف فى مواجهة السلطة الحاكمة، هو السمة المميزة لها، ليتفاقم الأمر إلى أعمال التخريب التى طالت الممتلكات العامة والخاصة، فى أرقى أحياء العاصمة الفرنسية، لنجد نشطاء أخرين على مستوى القارة يحاولون استلهام الفكرة، لتثور حينها ما يمكننا تسميته بـ"عدوى" السترات الصفراء، حيث خرج مواطنون فى دول أخرى يرتدون نفس الأزياء، بينما يحملون نفس الشعارات.
ولم تقتصر خصوصية الحركة على شكل المتظاهرين، أو الاستخدام المفرط للعنف، ولكن امتد إلى طبيعة المطالب، حيث لم تقتصر على إجبار الحكومة على التراجع عن قرارتها الاقتصادية، وإنما ارتفع سقفها إلى حد المطالبة باستقالة الرئيس، فى انقلاب صريح على "ديمقراطية الصناديق" والتى طالما تشدق بها الغرب باعتبارها الآلية المنشودة لتحقيق "حكم الشعب".
السترات الصفراء ربما تجاوزت كونها حركة احتجاجية فى الداخل الفرنسى، إلى كيان ملهم فى أوروبا، خاصة مع تزايد التوترات فى دول أخرى، على غرار أسبانيا، والتى شهدت ظهور حركة جديدة، تحمل اسم "تسونامى الديمقراطية"، ربما استلهمت النهج العنيف من الحركة الفرنسية، إلا أنها تجاوزتها فى طموحاتها، فى ظل رغبتها فى تحقيق الاستقلال الكامل لإقليم كاتالونيا عن الحكومة المركزية فى مدريد.
الحركات الجديدة فى أوروبا خلقت حالة من الاستقطاب داخل المجتمعات الأوروبية، لتتجاوز المستوى المجتمعى والأمنى، إلى المستوى السياسى، حيث أصبحت محلا للجدال السياسى بين الأحزاب، وهو ما بدا واضحا فى دعم الأحزاب اليمينية للسترات الصفراء فى فرنسا، للفوز بمزيد النقاط السياسية على حساب ماكرون، بينما نجد أن خطابا متشددا على سبيل المثال فى أسبانيا تجاه الحركات ذات النزعات الاستقلالية ربما ينذر باندلاع مزيد من العنف قد يضع البلاد على حافة الحرب الأهلية.
وهنا يمكننا القول بأن الحركات الجديدة فى أوروبا، والتى استلهمت نهجها من السترات الصفراء، أصبحت تتجاوز الأحزاب فى الكثير من الأحيان، بسبب حالة الزخم الذى تحظى به، وهو الأمر الذى يمثل تهديدا صريحا لاستقرار دول القارة، بسبب استخدامها المتزايد للعنف لتحقيق أهدافها، من جانب، بالإضافة إلى تجاوزها للإطار المتعارف عليه فى المطالب، وهو ما يمثل انقلابا على القواعد الغربية التقليدية من جانب أخر.