على الرغم من أن الورقة العسكرية تمثل أحد أهم أدوات الدبلوماسية الأمريكية منذ عقود طويلة من الزمن، إلا أن التوجهات التى يتبناها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب حول مسألة الانتشار العسكرى الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، تثير الكثير من الجدل فى الآونة الأخيرة، سواء بسبب الانسحاب من سوريا، والذى يعد بمثابة مساهمة أمريكية غير مسبوقة فى توطيد النفوذ الروسى، ليس فقط فى الأراضى السورية، ولكن فى منطقة الشرق الأوسط بأسرها، بالإضافة إلى توجهه نحو الانسحاب من أفغانستان، فى أعقاب توقيع اتفاقية سلام مرتقبة مع حركة طالبان، وكذلك الحديث عن احتمالات تقليص القوات الأمريكية فى كوريا الجنوبية، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول ما إذا كانت واشنطن ألقت بورقتها العسكرية فيما يتعلق بالدبلوماسية أم أنها مجرد عملية إعادة هيكلة.
ولعل الحديث عن استخدام سياسة الانتشار العسكرى لتحقيق الأهداف السياسية الأمريكية ليس بالأمر الجديد تماما، فقد سبق وأن كان الجيش الأمريكى طرفا فى حروب تحت شعارات تبدو مثالية، أبرزها الحرب على الإرهاب، بينما كانت تحمل فى طياتها أهدافا بعيدة عن مثالية شعاراتها، وأهمها تحقيق ما عجزت عنه سياسات الحصار السياسى والاقتصادى تجاه الخصوم، على غرار ما حدث فى العراق وأفغانستان، وقبل ذلك فى شبه الجزيرة الكورية وغيرهم، وهو النهج الذى أطلق عليه قطاع كبير من المحللين "عسكرة الدبلوماسية"، وهو ما يعنى استخدام القوة العسكرية لتحقيق الأهداف الدبلوماسية.
إلا أن الخسائر الكبيرة التى نجمت عن هذا النهج، سواء فيما يتعلق بالاقتصاد، أو حتى أرواح الجنود التى أزهقتها الحروب، كانت بمثابة المنطلق الذى انطلقت منه رؤية ترامب، والذى قدم وعدا صريحا بالانسحاب من العديد من المناطق حول العالم، خلال حملته الانتخابية الأولى، إلا أنه ربما لم يتخلى عن فكرة الانتشار العسكرى، خاصة وأن العقيدة الأمريكية تقوم على ارتباط وثيق بين احتفاظ واشنطن بمكانتها الدولية من جانب، وفرض رؤيتها بالقوة العسكرية من جانب أخر.
إلا أن الوجود العسكرى الأمريكى حول العالم، ربما يحتاج إلى إعادة هيكلة، من وجهة نظر ترامب، وهو ما يبدو فى تغير الأولويات فى المرحلة الراهنة، ففى الوقت الذى يحاول فيه ترامب تخفيف التزاماته لحماية حلفاءه فى أوروبا الغربية، نجد أنه يتحول شرقا إلى بولندا، وهو ما ينطبق كذلك على الوضع فى آسيا، حيث أنه يتجه نحو تخفيف الوجود العسكرى فى كوريا الجنوبية، خاصة بعد التطورات الكبيرة فى ملف كوريا الشمالية، ربما لصالح زيادة أعداد قواته فى مناطق أخرى بالقارة الصفراء، وعلى رأسها فيتنام.
وهنا يمكننا القول بأن الاستراتيجية العسكرية الأمريكية الجديدة تقوم على اختيار مناطق جديدة، تبدو أكثر أمنا، وأقل تكلفة، فى ضوء تكفل الدول الجديدة بإنشاء القواعد العسكرية، وكذلك توفير كافة الإمكانات، دون أن تتكبد الخزانة الأمريكية دولارا واحد، بالإضافة إلى أن الوجود العسكرى بها يبدو أكثر فاعلية، عبر حصار الخصوم بشكل مباشر، سواء روسيا عبر التواجد فى أوروبا الشرقية، أو الصين عبر الانتشار المحتمل فى فيتنام، ليصبح دورها الرئيسى هو حماية المصالح الأمريكية فى تلك المناطق، بالإضافة إلى كونه ورقة ضغط سياسى لإعادة توجيه السياسات التى تتبناها القوى الأخرى، بعيدا عن المواجهة العسكرية الفعلية، والتى تبدو خيارا مستبعدا، ويحتاج إلى حسابات كبيرة ومعقدة قبل الخوض فيه.